مقالات الرأي

مستقبل سورية والمشرق العربي

يبدو المشرق العربي، كما لم يكن من قبل، ساحة متداخلة لقضايا متشابكة، لا يمكن فصلها فصلًا نظريًا تعسفيًا عن بعضها بعضًا، فقد انفتحت الحدود الجغرافية والسياسية على بعضها بعضًا، في العراق وسورية ولبنان، وهي المرة الأولى في التاريخ الحديث تصبح فيه هذه الساحات الثلاث وكأنها ساحة واحدة، بل وتمتلك سمتين عامتين مشتركتين: الأولى فشل الدولة بوصفها دولة العموم، والسمة الثانية، هي تحول كل دولة -على حدة- إلى دولة فاشلة (بحسب المعايير الدولية لفشل الدول)، كما أصبح العامل الخارجي العامل الوازن في تحديد مصير ومستقبل هذه الدول.

هل يمكن، والحال كذلك، فصل مستقبل سورية عن مستقبل المشرق العربي؟

لقد فشلت كل القرارات الأممية بخصوص سورية، وجولات المفاوضات في جنيف، في العبور بالبلاد إلى المرحلة الانتقالية، والتي كلما زاد الحديث عنها أصبحت أبعد منالًا، حيث تبدو القناعات الفعلية للقوى الفاعلة، إقليميًا ودوليًا، غير مستقرة بشأن الحلول التي يمكن أن تفضي إلى بداية مرحلة انتقالية، وهو ما تظهره الوقائع إظهارًا جليًا، بعيدًا عن التصريحات الإعلامية لهذه الدولة أو تلك.

وإذا كانت قوى عراقية كثيرة قد راهنت على أن يبدأ العراق مرحلة جديدة، بعد سقوط نظام صدام حسين، فقد ذهبت تلك الرهانات أدراج الرياح، خصوصًا مع انفتاح العراق على صراعات عنفية وسياسية ومذهبية، وازدياد النفوذ الإيراني مع مرور السنوات؛ إلى أن أصبحت إيران اللاعب الأكثر حضورًا في الساحة العراقية، وعوضًا عن أن تتاح للعراقيين فرصة تاريخية؛ لبناء دولة المواطنة والتعددية السياسية، تحولت تلك الفرصة إلى كارثة، تتداخل فيها عوامل انهيار الداخل مع صراع الخارج.

أما لبنان الذي عانى من النفوذ السوري المباشر، منذ عام 1976، ولغاية 2005، فلم يتمكن من السير نحو بناء دولة “مستقلة ذات سيادة”، وهو الشعار الأثير لدى الزعماء السياسيين في لبنان، وعاد ليعاني من ارتباط قضاياه الداخلية بسورية، حيث أصبح حزب الله طرفًا في الدفاع عن النظام السوري، في محاولة لمنع سقوطه، وقد تجلّى الانعكاس المباشر لتدخل حزب الله في سورية على لبنان؛ إذ تستمر حالة الفراغ في منصب الرئاسة منذ 25 مايو/ أيار 2014.

وتعمل اليوم ميليشيات عديدة عابرة للحدود في دول المشرق العربي، وتُستخدم أداةً في حرب غير متناظرة (غير تقليدية) بين أطراف الصراع الإقليميين، وباتت هذه الميليشيات قوة ضاربة، في غياب وتراجع قوة الدولة العسكرية؛ إذ لا يمكن لنا اليوم أن نتحدث عن جيوش نظامية متماسكة في هذه الدول، على الرغم من وجود وزارات للدفاع وهيئات للأركان، لكنها لا تمتلك زمام قرارها، وأصبحت -هي أيضًا- جزءًا من حالة الصراع الداخلية، بعد أن فقدت سمتها الوطنية، بوصفها مؤسسات لحماية الأوطان من التهديدات الخارجية.

وفي ظل خضوع السياسة لمنطق الصراع المسلح، أصبح الصراع الطائفي عنوانًا رئيسًا لحالة الاستقطاب في دول المشرق الثلاث، حيث تراجع الخطاب الوطني الجامع، وخَفُتَ صوته، وتخلخلت القوى المدافعة عنه، بالتزامن مع انقسام مجتمعي يختزل شعوب المشرق إلى مجرد طوائف، ويجردهم من هوياتهم الوطنية والتاريخية، ويكرّس زعامات طائفية، مرتبطة بالخارج، عبر التمويل والتسليح.

وإذا كان مستقبل أي دولة رهنًا بقدرتها على بناء العقد الاجتماعي وتطويره، فإن ما خسرته دول المشرق هو عقدها الاجتماعي القديم، في ظل غياب أفق راهن لبناء عقد اجتماعي جديد، وفي حالة من التمزق في البنى الاجتماعية – الاقتصادية، وظهور نخب مرتبطة بالحرب، لا تمتلك مشروعًا وطنيًا، وتتغذى على الصراع، في الوقت الذي تآكلت فيه المنظومات الأهلية، وتتلاشى منظومات التضامن المجتمعية.

ليس مستقبل سورية وحده غامضًا، بل مصير المشرق ككل، في الوقت الذي تتحكم بالصراع الراهن دينياميات لا تمتلك قوة الحسم، فلا الصراع -ببعده المسلح- تمكّن من الحسم، ولا الأطراف المتصارعة إقليميًا ودوليًا راغبة بتسوية جدية، فما زالت القناعة السائدة هي التمدد والقضم على حساب الدول المشرقية، وهو ما يجسده الوضع السوري بامتياز، حيث تتشارك العديد من القوى الإقليمية والدولية النفوذ على الأرض، مع وجود أمل لدى كل طرف بتغيير الوقائع لمصلحته مع الوقت.

وبحسب توماس هوبز (1588-1679)، فإن الدولة كائن اصطناعي، وهي بهذا المعنى لا تأخذ معناها إلا في سياق تحولاتها التاريخية المتطابقة مع مستوى التطور أو مستوى التقهقر، واحتمالات دخولها في حالة صراع مفتوحة (حرب الكل ضد الكل)، وهو ما يجري منذ أعوام في دول المشرق، وقد لا تكون صيغ الدولة القديمة قادرة على الصمود، أو أنها استنزفت إمكانات وجودها، وليست سورية بهذا المعنى استثناءً، وهو ما يجعل كل الصورة الراهنة عبارة عن مجرد إمكانات تنتظر تحققها في واقع جديد، وهو ما تميل إليه تصورات غربية، وأميركية على وجه الخصوص، والتي ترى أن سورية القديمة لا يمكن لها أن تعود، وإذا كان الأمر هكذا، فليست سورية وحدها التي باتت من الماضي، وإنما المشرق العربي برمته.

الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق