تشق حاملة الطائرات الروسية طريقها من البحار البعيدة إلى المتوسط.، ترافقها صلوات الضباط الروس؛ كي لا “تتجشأ” مزيدًا من الدخان الأسود أو تلم بها مصيبة تمنعها من مواصلة رحلتها المليئة بالإشارات. للحاملة (كوزنيتسوف) تاريخ تشغيلي سيئ، وإذا ما أضفنا إليه تخلفًا تقنيًا عن نظيراتها في العالم، تتكشف بوضوح ضآلتها في الميزان العسكري بين القوى الكبرى.
قد تشارك السفينة الروسية في مذبحة حلب، تلاحقها عدسات الإعلام، فتحرف الأضواء عن العقدة الخطرة التي تتشكل في الريف الحلبي الشمالي. الحلبة في مكان آخر، هناك في مدينة الباب؛ حيث يهرول الأتراك والأكراد والنظام للسيطرة عليها.
يحبس الأميركان والروس أنفاسهم، إذ يزداد المشهد السوري ارتباكًا. ربما تجد المعارضة المدعومة من الجيش التركي نفسها على تماس مباشر مع قوات النظام، فيغدو حينها احتمال الاشتباك بين الطرفين وحلفائهم في الأرض والجو عاليًا بشكل غير مسبوق في الحرب السورية. أو لعل الشرخ بين أنقرة وواشنطن سيضرب عميقا في الأرض، حين تسخر تركيا ترسانتها العسكرية لإضعاف القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، ومنعها من وصل المناطق التي تسيطر عليها عبر السيطرة على المدينة.
لا تكف تركيا عن التأكيد أنها عازمة على السيطرة على الباب وإبعاد الأكراد عن منبج، رغم تصعيد النظام والروس لهجتهم مؤخرًا ضد التدخل التركي. يلقي الأسد ببراميله لكن فوق رؤوس مقاتلي درع الفرات هذه المرة، تتلقف أنقرة الرسالة، فتعلن أن حلب هي “ملك لأهلها”. لن تنفع تطمينات أردوغان حتى لو تعهد عدم توسيع مسرح عملياته إلى المدينة النازفة وأيضا موافقته على خروج جبهة فتحة الشام منها، فالنظام يخشى أن سيطرة المعارضة على الباب ستجعله لاحقًا في مرمى نيرانها. يخفت صدى الحديث عن معركة تحرير الرقة أمام تلك الجملة من التعقيدات، ثم كيف سيتم التوفيق بين قوات سورية الديمقراطية التي تستعد لجولة أخرى مع داعش من جهة، والخطوط الحمراء التي تخطها أنقرة، ونيتها المشاركة في العملية من جهة أخرى؟ إن كتب للمدينة الخلاص من داعش قد تغرق مجددًا في بحر جديد من التناقضات. من سيحكم الرقة حينها؟
تغض أميركا بدورها الطرف عما يحدث في المدينة الشهيدة الحية، فبعد أن صدرت عنها إشارات مترددة بأنها قد تنفض الغبار عن احتمال توجيه ضربة عسكرية للنظام، أرسلت روسيا بطاريات أرض-جو إس 300 إلى سورية. إلى جانب إس 400 في حميم، ودفاعات الأسد الجوية، يملك بوتين الآن الأجواء السورية حتى أنه يستطيع اعتراض الصواريخ البالستية وصواريخ كروز. يزيد ذلك من تعقيد أي عمل عسكري، ويزيد من إحجام أوباما عن تدخل لم يرغب به حتى حين كانت الأبواب له مشرعة على مصراعيها.
تخشى واشنطن تصعيدًا عسكريًا مع موسكو، فالدب الروسي اليوم جائع شرس، وليست ردود أفعاله قابله للتنبؤ. يئن الاقتصاد الروسي تحت وقع العقوبات وانهيار أسعار النفط، ورغم شعبية بوتين المرتفعة فإن رضا الشعب المنهك عن الحكومة منخفض بعد أن ضربت مستويات الفقر معدلات قياسية. يحتاج بوتين إذًا إلى افتعال أزمات خارجية، تماما كما استثمر الأسد الأب، ربيب المدرسة السوفييتية، عقودا في التخويف من عدوان البعبع الإسرائيلي كي يحكم قبضته على رقاب السوريين.
تقوم موسكو، في المقابل، باستعراض تلو الآخر، فهي تضع برلين تحت مرمى صواريخها النووية التي أرسلتها مؤخرًا إلى كالينين جراد، وليست كتلة الخردة التي تحاول شق طريقها في المتوسط إلى طرطوس إلا رسالة يقرؤها الخبراء العسكريون كمحاولة لتأكيد التزام موسكو في حربها السورية. كم ستمكث الحاملة الروسية في المتوسط، وما هي المهمات التي تعتزم القيام بها؟ سؤال يكشف عما هو بين السطور من حدود النفوذ الروسي الذي تعتزم تأكيده في المنطقة.
مرة أخرى، فإن قراءة البنتاجون لرد الفعل الروسي تجاه أي عمل عسكري يستهدف النظام أو منطقة حظر طيران كالتي تتحدث عنها مرشحة الرئاسة الأمريكية كلينتون، ستشكل عاملًا مُهمًا في تحديد معالم سياسة الإدارة الأميركية القادمة تجاه سورية. لم تعد المسألة، كما لم تكن يوما، هي هذا البلد الممزق وشعبه المعذب، لكنها الآن تتعلق أكثر من ذي قبل بمكانة أمريكا في النظام الدولي وأمن أوروبا. يستلزم ذلك وضع حد للتمدد الروسي، الذي يذهب بعض الرأي في واشنطن إلى أنه لن يتوقف إلا بعد أن يرى فوهة البندقية موجهة إلى حلفائه ووكلائه.
ليست سورية هي المسألة، لكنها أيضًا قد تكون الشرارة التي قد تشعل حربًا إقليمية أو دولية، حتى لو تم تجاوز مأزق النزاع على مدينة الباب في ريف حلب الشمالي. وكما تناولنا في مقالات سابقة في هذه الزاوية، فإن الحرب السورية تبدو مستمرة ولا يلوح لها حل في الأفق، وتنزاح فيها خطوط التماس الساخنة لتضع اللاعبين الخارجيين بآلاتهم الحربية في مواجهة مباشرة، ذلك عدا عن تعقيد الأجواء السورية وتشابكها، بما يعني استمرار خطر تمدد الحريق خلال السنوات القادمة. ليس في الأمر مبالغة، فقد بدأت مراكز أبحاث غربية رصينة تلمح إلى هذا النوع من الاحتمالات.
هي إما أن تترك لمصيرها يتكالب عليها الأسد والروس والإيرانيون، فيحيلونها حطامًا، ويستحيل سرابًا أي أمل بإعادة بنائها كدولة، أو أن تدخلًا خارجيًا لا يمكن التنبؤ بتبعاته قد يلجمهم لكن دون أن يبدد المخاوف السابقة. الحديث طبعًا عن سورية التي كما شخص كيري ذات مرة مشكلتها، بسيطة ومعقدة في نفس الوقت، معقدة لكثرة اللاعبين -المحليين والإقليميين والدوليين- واختلاف أجنداتهم، وبسيطة لأن الحل هو إعادة بنائها كدولة حديثة وموحدة. ما لم يذكره كيري حينها، أن التوافق بين أولئك اللاعبين هو ضرب من الخيال، خصوصا في ظل المنقلب الذي تنحدر إليه الأحوال في المنطقة.
سترسو كوزنيتسوف -حاملة الطائرات الروسية- في طرطوس، وستتكشف تباعًا فصول معركة الباب، وسيقلب الأميركيون احتمالاتهم ذات اليمين وذات الشمال. قد يسأل البعض في واشنطن، ألم تصمت روسيا حين أسقط الأتراك طائرتها؟ وماذا ستفعل إن تدخلنا؟ الجواب متروك للبيت الأبيض بعد أن يستقر على سيد أو سيدة له، وتبدأ بعدها ملامح السياسة الخارجية للإدارة القادمة بالتكشف.