مر أسبوعان على ذلك الاتصال من منظمة الهجرة الدولية، التي تعمل بالتنسيق مع مفوضية اللاجئين في الأردن، حينها أخبرتني الموظفة، أن ملف عائلتي قد رُشح للسفر، وإعادة التوطين في الولايات المتحدة الأميركية.
رغبة غامضة دفعتني لأن أعطي موافقتي الأولية على حضور المقابلة الأولى، والتي كانت محددة بيوم معين، وبعد دقائق، عدت بذاكرتي إلى الوراء قليلًا، حيث عرفت كثيرًا من الأسر، والأفراد الذين تركوا الأردن، وهاجروا إلى أميركا وكندا بالطريقة نفسها، كنت قد عايشت مراحل المقابلات تلك، والتحضيرات للسفر، كيف كانت تسير وتستمر لمدة تزيد عن السنة، وآخرون لم يجدوا إلا طريق البحر قبل أن تفرض تركيا تأشيرة السفر على السوريين، وكيف كانت أكبر موجة هجرة نحو الغرب في ذلك الوقت.
إختلاف في الأسباب
لكل عائلة سورية غادرت الأردن، أو تريد المغادرة أسبابها التي تراها واقعية ومنطقية، ولكن هناك سبب عام لدى الغالبية، وهو أن الأردن بلد فقير الموارد والإمكانيات، وتكاد تكون فرص العمل قليلة حتى بالنسبة لأبنائه، ما يجعل الحياة صعبة فيه بالتوازي مع تكاليف الحياة الباهظة من جهة، وتكاليف الدراسة، وخاصة الجامعية، من جهة ثانية.
يقول أبومحمد، مهندس سوري، وصل منذ فترة وجيزة إلى ولاية كونتيكيت في أميركا: “أقمنا في الأردن ثلاث سنوات، ولكن عندما وصل أول أبنائي للدراسة الجامعية، بدأت أعاني تكاليف مرهقة، فأقساط الجامعة لا تقل عن أربعة آلاف دولار سنويًا من الصعب تأمينها، وعندما اتصلوا بنا من منظمة الهجرة الدولية للسفر إلى أميركا، لم أتردد للحظة في قبول ذلك، من أجل أن يتابع أبنائي دراستهم الجامعية”.
لكن حتى في أميركا، ليست الحياة بهذه السهولة بالنسبة للاجئين السوريين، فهناك صعوبات جمة، لا بد من تجاوزها؛ للتأقلم مع نمط من الحياة يختلف كليًا عن أي دولة عربية؛ فبمجرد وصول العائلة إلى الأراضي الأميركية، يؤمّن منزل أو إقامة في فندق، ريثما يجهز منزل العائلة، ويعطى مبلغ ألف دولار لكل فرد لتأمين الحاجات الأساسية، وخلال أيام تُستكمل أوراق التأمين الصحي، ويُسجل الأبناء في المدارس والجامعات، ومدارس اللغة لجميع أفراد العائلة.
بعد مضي ستة أشهر، كما يقول أبو محمد، “تبدأ رحلة البحث عن العمل، فالمساعدات ليست دائمة، حيث تبدأ بالانخفاض حتى تنقطع انقطاعًا شبه كامل في مرحلة معينة، فيجب -حينئذ- أن يكون الشخص قد تعلم اللغة وأوجد عملًا له؛ ليتحقق الاندماج كأي مواطن يعيش على الأرض الأميركية”.
بعض السوريين عدوا السفر إلى أميركا فرصة للعمل، ولعيش أفضل، كما يقول فراس الذي لم يستطع إيجاد عمل مستمر له في الأردن: “بعد أن تعلمت اللغة في أميركا بحد مقبول، بدأت في العمل في تقليم أشجار الحدائق المنزلية، وأحصل على أجر يقارب 20 دولار في الساعة الواحدة، وأجر كهذا من غير الممكن الحصول عليه في أي عمل في الأردن، بالنسبة لعامل عادي، ولكن في أميركا، يعد من الأعمال المجهدة”.
عائلات سورية أخرى لم تجد وسيلة للسفر إلا عن طريق البحر، من خلال السفر إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، على الرغم من المخاطر المحيطة بهذه الرحلة التي دفع كثير من السوريين وغيرهم أرواحهم ثمنًا لها.
إسماعيل المصري، سوري أقام سنوات عدة في مدينة إربد الأردنية، سافر منذ سنة إلى تركيا، ومنها إلى ألمانيا عبر البحر مع عائلته، يقيم اليوم في مدينة هانوفر، يقول “اضطررت لمغادرة الأردن؛ بسبب الضائقة الاقتصادية، وتوقف المساعدات، وعدم القدرة على العمل، فأنفقت ما كان مدخرًا للوصول إلى ألمانيا، وأنا الآن أتعلم اللغة الألمانية، التي تعد شرطًا للاندماج في المجتمع وإيجاد عمل لاحقًا”.
يتحدث إسماعيل عن الحياة في ألمانيا “المعيشة في ألمانيا أسهل من الأردن، فالحكومة تدفع أجرة المنزل، والمساعدات كافية للعيش، ولكن أعيش حالة خوف من فكرة أن يكبر أبنائي في المجتمع الغربي، حيث حرية في كل شيء، لا ضابط لها إلا القانون فحسب”.
رأي آخر معاكس
يرفض عدد كبير من السوريين، المقيمين في الأردن فكرة الهجرة والسفر إلى الغرب عامة، ولهؤلاء أسبابهم أيضًا، فمنهم من وجد عملًا وأحس بالإستقرار، خاصة بعد منح تصاريح عمل مجانية للعمال السوريين من الحكومة الأردنية، ومنهم من يشعر بالخوف من مجرد التفكير بأنه سوف يفقد أولاده في تلك البلاد بعد بلوغ سن الرشد.
أبو سليمان، من مدينة عربين في الغوطة الشرقية، يقيم في الأردن، ذهب إلى المقابلة الأولى، للسفر إلى أميركا، ولكن بعد ذلك تراجع عن الاستمرار في هذه الخطوة، وقال “بعد أن فكرت مليًا في الأمر، تراجعت عن فكرة السفر، والسبب الرئيس هو خوفي من أن أفقد أولادي في المستقبل، فنحن تربينا في مجتمع شرقي، له عاداته وتقاليده المنضبطة إلى حد كبير، وذلك ما لا يمكن تصوره في بلاد تعطي الحرية المطلقة للشباب في العيش كما يشاؤون”.
يُشارك أبو سليمان الرأي عدد من السوريين، ومنهم من أبدى أسبابًا أخرى جعلته لا يُفكر بالسفر، كما يقول أحمد: “لقد شعرت بالاستقرار في الأردن، بعد أن حصلت على تصريح للعمل، وأنا أعمل الآن في مطعم وبراتب جيد، دون خوف من أي مخالفة من وزارة العمل الأردنية، إضافة إلى المساعدات التي تقدمها مفوضية اللاجئين، والأهم بالنسبة لي هو أنني أقيم في بلد عربي، وهناك أقارب لي، ما يجعلني أشعر بغربة أقل بكثير مما لو كنت في بلد أجنبي”.
مواقف وآراء مختلفة، يمكن لمسها لدى السوريين في الأردن عامة، ومن غادره، فالذين لا يزالون يقيمون في الأردن، منهم من يرفض فكرة السفر رفضًا قاطعًا إلى الغرب وهؤلاء لهم أسبابهم، ومنهم من يأمل أن يسافر إلى بلد غربي، وحتى الذين هاجروا، منهم من هو سعيد بالحياة الجديدة التي وجدها، ومنهم من يشعر بالندم، ولكن لا يريد العودة إلا إلى سورية، في محاولة من الجميع للتعامل مع الحياة وواقعها الذي فرضته الاوضاع الصعبة على الجميع.
لا أحد يستطيع أن يجزم، في حقيقة الأمر، أهو اعتقاد سائد لدى شعوب المنطقة بأن الغرب قطعة من الجنة، أم أن التوجه نحوه هو هروب من واقع عربي يتمزق يومًا بعد يوم، اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، في محاولة للبحث عن حياة أفضل، هي هجرة ثانية لكثير من السوريين بعد الهجرة الأولى من سورية، بعد أن غاب الأمن، والذي يعتقد كثيرون أنه لن يعود لسنوات طويلة.