أنهيت مشاهدة أحد البرامج الذي يروي كيف تمكن الموساد الإسرائيلي من اغتيال عالم الذرة المصري (يحيى المشد) في باريس عام 1980، فعدت بالذاكرة إلى العام نفسه في سورية، عندما اعتُقل أحد أبنائها من الحاصلين على شهادة الدكتوراه في علوم الفيزياء النووية من روسيا.
استرجعت تلك الرواية التي سمعتها -أكثر من مرة- بطريقة الهمس خوفًا؛ حتى من الجدران التي ربما تمتلك آذانًا تستطيع سماع كل شيء، وتقوم بنقله إلى أجهزة الموت التابعة لنظام الأسد، عن الشاب الفلسطيني الأصل، من قريتنا، الذي قتله نظام الأسد.
هو الخوف من تأثير الكلمة، أكثر من أزيز الرصاص، تلك هي السياسة التي أرساها الأسد الأب خلال ثلاثين عامًا، وأورثها لولده بشار، واستطاعا -من خلالها- تغييب السوريين في ظلمات لعقود؛ حتى لمع أول خيط نور عبر حروف خطها أطفال على جدران مدرسة.
كيف يقتلون العلماء
حسن محمد مازن حسين، فلسطيني سوري، من مواليد العام 1949، في بلدة المزيريب بريف محافظة درعا، استطاع النجاح في الثانوية العامة (الفرع العلمي)، وكان ترتيبه الأول على مستوى سورية، وكُرّم -آنذاك- من رئاسة الجمهورية، وأرسل في بعثة على نفقة الدولة للدراسة في روسيا.
استطاع حسن، الحصول على شهادة الدكتوراه، في علوم الفيزياء النووية بامتياز، متفوقًا على زملائه في الجامعة، وخيره الروس بين البقاء والعمل في روسيا، أو العودة إلى سورية، فآثر العودة؛ لخدمة بلده. كما أخبرهم.
يقول برهان، ابن أخ حسن: “ما إن وصل حسن إلى سورية؛ حتى اقتيد إلى الخدمة العسكرية، ليمضي سنة فيها، استطاع خلالها تأليف أول كتاب له؛ ليدرّس في الجامعة، تبعه كتابان آخران، لا يزالا يُدرّسان في جامعة حلب حتى اليوم”.
كان حسن يوفَد إلى مؤتمرات عديدة خارج سورية، في المؤتمر الأخير الذي عاد منه إلى جامعة حلب، وبينما كان عبد الله الأحمر، عضو قيادة القطر لحزب البعث، يلقي محاضرة، خرج الطلاب من قاعته، لاستقبال أستاذهم؛ ما أزعج الأحمر كثيرًا، وفي اليوم التالي، هبطت طائرة مروحية، في ساحة جامعة حلب، واعتقل العناصر الموجودون فيها “حسن” من قاعة التدريس، واتهم بالانتماء لجماعة الأخوان المسلمين.
يقول برهان: “بعد 3 سنوات، وتحديدًا في العام 1983، أعدم حسن رميًا بالرصاص في سجن تدمر العسكري، خلال الإعدامات الجماعية التي كانت تجري كل أسبوع، كما أخبرنا أحد الأشخاص الذي كان شاهدًا على تنفيذ الإعدام دون أي محاكمة”.
اعتقال وتعذيب واختفاء
فاتن رجب، ابنة مدينة دوما، الحائزة على شهادة الدكتوراه في الفيزياء وعلوم الذرة، إحدى ضحايا نظام الأسد، فعندما بدأت الثورة في العام 2011، كانت تُحضّر رسالة جديدة للدكتوراه في الفيزياء النووية، في إحدى جامعات باريس، لكن اعتقالها حال دون ذلك.
اعتُقلت فاتن رجب، في كمين نصبته لها المخابرات الجوية في دمشق، بتاريخ 26 كانون الأول/ ديسمبر 2011؛ لتتعرض -خلال سنة قضتها لدى الجوية- لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي؛ ما نتج عنه إصابتها بنوبات صرع، ونزيف في الأنف والأذن.
تولى اللواء جميل الحسن، مدير إدارة المخابرات الجوية التحقيق معها شخصيًا، وهددها يومًا، بأنها ستنسى كل شيء، سوف يجعلها تفقد عقلها، إن لم تقم بالتعاون معهم، لم يكن ذلك التعاون سوى العمل في إيران، لكن رفضت فاتن كل الضغوطات، فحُولت إلى فرع الأمن العسكري 215، لتحاكم -لاحقًا- أمام المحكمة الميدانية العسكرية.
تتحدث سمر، وهي معتقلة سابقة في الفرع 215، التقت بفاتن رجب هناك: “كانت فاتن رجب تمثل أسوأ وضع لمعتقلة رأيتها على الإطلاق، فقد تعرضت لتعذيب شديد في المخابرات الجوية، وأثر كثيرًا على شخصيتها وتصرفاتها، كانت تعمد إلى تجريح وجهها بأظافرها حتى يسيل منه الدم، كانوا قد حلقوا لها شعرها كاملًا”.
تعرضت فاتن رجب لتعذيب وحشي بتهمة باطلة، كان الهدف منها الابتزاز والمقايضة، كما تقول سمر، التي تابعت: “أخبرتني فاتن، أنها اتُهمت بالإرهاب، والتخطيط لاغتيال ماهر الأسد، وحاولوا في المخابرات الجوية عقد اتفاق معها، بحيث يخرجونها من السجن بشرط الذهاب إلى إيران، والعمل فيها، بحسب تخصصها في علم الذرة، لكنها رفضت”.
لا أحد يعلم اليوم أين هي فاتن رجب، تقارير تحدثت عن نقلها إلى سجن صيدنايا، وإعدامها، وأخرى تتحدث عن أنها لا تزال في أحد السجون السرية التابعة لنظام الأسد.
التهجير أو مصير مجهول
كأنه ولد من جديد، من استطاع الهرب ولو مكرهًا؛ كي لا يعتقل أو يقتل في سورية، وخاصة بعد اندلاع الثورة، كما هو شهاب، سوري، من ريف محافظة درعا، والذي يحمل إجازة في الفيزياء، وحصل على شهادة الماجستير في الوقاية الإشعاعية، وأمان المنابع المشعة وأمنها، وهو فرع يندرج تحت اسم، الفيزياء الإشعاعية، التي تتناول قسمًا طبيًا هو الطب النووي، وقسمًا صناعيًا، كصناعة النفط والغاز، إضافة للقسم البحثي.
يقول شهاب “اضطررت لأن أغادر سورية مرغمًا، كان أُوقف توقيفًا شبه يومي على الحواجز التابعة للنظام، كنت أتعرض للإهانة الشديدة في كل مرة، في النهاية، شعرت أن أجهزة النظام تريد قتلي؛ فآثرت الخروج”.
لجأ شهاب، إلى الأردن، وأقام في مخيم الزعتري فترة من الزمن، هناك حيث لم يتمكن من إكمال طموحه في الدراسات العليا، وحتى لم يتمكن من إيجاد عمل للعيش ليس أكثر، لإعالة والديه وأبنائه، وبعد محاولات، نجح في السفر إلى هولندا، وهو يحلم بإكمال ما بدأه، لكن واجه هناك ما لم يتوقعه، فقد مُنع من إتمام دراسته في التخصص نفسه الذي يحمله، كما مُنع من العمل فيه.
وعن اضطراره للعمل، قال: “عملت عملًا غير نظامي، مع منظمة تعنى بشؤون اللاجئين، ثم عملت في سوق للمجوهرات التقليدية، يملكه رجل أعمال هندي، لكن بعد أن علم أنني سوري طلب مني ترك العمل، كما عملت مع منظمة تدعى (كوا)، تعمل مع اللاجئين في هولندا”.
ليست مصادفة، تلك الطريقة التي اتبعها نظام الأسد، منذ وصول الأسد الأب إلى الحكم في سورية، وامتداد حكمه حتى اليوم، في تصفية واعتقال وتعذيب، وتهجير العلماء السوريين، وأصحاب الفكر والمثقفين، لإفراغ سورية من كنزها الثمين، والاكتفاء بمجموعة اختارها بعناية شديدة، مهمتها الوحيدة تمكين الأسد من استعباد الشعب السوري، من خلال السير به وبسورية نحو أشد درجات الانحطاط العلمي والثقافي، الأمر الذي باتت نتائجه تظهر ظهورًا جليًا بعد مضي خمس سنوات على الثورة السورية، ضد أكثر الأنظمة دمويًة واستبدادًا في المنطقة.