مقالات الرأي

كولونيل وأمير في فضاء واحد!

نظر سائق التكسي، التي تقلنا من حلب شرقًا باتجاه الصحراء، إلى وجوهنا في مرآته الداخلية، وأخبرنا: “هذه اسمها مدينة خناصر”. تلفتُ إلى جانبي الطريق، كانت المدينة عبارة عن ركام. المنطقة التي كنا نعبرها كي نصل إلى “الحدود” بين حواجز النظام ومواقع (داعش)، قاحلة جرداء، وعبورها لا بديل عنه بعد أن أغلقت كافة المنافذ المؤدية إلى أقرب نقطة على الحدود السورية – التركية. وفي الحرب برزت أسماء مواقع ومناطق نائية، لم نكن نسمع بها من قبل. سمعنا مثلًا بخناصر والسفيرة لكن عن “إتريا” و”السعن” لا نعرف شيئًا.

حاولنا التغلب على قلقنا، وإخفاء اضطرابنا، خلال الطريق، بالحديث مع السائق عن المسافة المتبقية لنجتاز حاجز النظام، فطمأننا، موضحًا أن الحاجز يأخذ المعلوم على كل “رأس” في كل سيارة. وشكا من صعوبة الوصول إلى بيته الواقع في مناطق “المعارضة”، بينما مركز عمله في مناطق سيطرة النظام. نحن نبدد أعصابنا لنخفف رعبنا من المجهول على هذا الطريق، وهو غارق في شكواه من صعوبة الوصول إلى زوجته كل يوم. وبعد مونولوج كما مسرحيات الممثل الواحد، أفرج عن سريرته بالحاجة إلى زوجة ثانية تسكن بمنطقة النظام، فإن تأخر في القسم الغربي من حلب يبات ليلته هناك مع زوجة جديدة، وإن أُتيح له الوصول إلى بيته في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام يبات ليلته عند زوجته الأولى. كان سعيدًا برحلتنا معه؛ لأنه سيقترب من بيت زوجته. وما كان يتوقع أن يقصم حاجز “الكولونيل” ظهر لهفته وأمنيته تلك الليلة.

عند تقاطع على الطريق القادم من الجنوب الشرقي، مع طريقنا القادم من الشمال الغربي، بدت السواتر الترابية، وكتل الإسمنت، وممراتها اللولبية. “هذه إتريا”، قال السائق، وهو يخفف السرعة، واتجه إلى المعبر المفتوح على الشمال الشرقي. تنفسنا الصعداء، فالحارس عند الممر لم يوقفنا، واعتقدنا أننا “تخلصنا” من خطر حاجز الكولونيل في إتريا. وامتزج في نفوسنا الرعب والاطمئنان، عندما طلب السائق من النساء الاستعداد لارتداء الزي الذي تفرضه (داعش) في مناطق سيطرتها.

لم نبتعد كثيرًا عن حاجز الكولونيل، حين واجهتنا سيارة دفع رباعي تمتد منها أذرع بدت أكمامها “مبرقعة”، وفوهات البنادق ظاهرة، وأمرونا بالوقوف. ثم بالاستدارة والعودة إلى الوراء، بعد أن حجزوا بطاقاتنا الشخصية، وهكذا كافة السيارات التي تقل هاربين فلسطينيين إلى المجهول. اجتزنا السواتر، واتجهنا إلى الجنوب قليلًا، قلت في نفسي هل وقعنا في فخ الاعتقال؟ هل سيأخذوننا إلى دمشق؛ حيث عناويننا في الهوية؟ خارت قواي، لأنني أعرف ما معنى الاعتقال في زمن الثورة، هو موت شبه أكيد. لكنهم أوقفونا في فسحة على طرف الشارع فيها بناء، فهمنا أنه مقر رئيس الفرع، هكذا تكلم عناصر الحاجز الصحراوي في إتريا. أمرونا بإنزال أمتعتنا، فتشوها، وفتشوا أجسادنا باللمس كأنهم يبحثون عن سلاح! وبعد انتهاء التفتيش، خرج الكولونيل من مكتبه، وأبلغ الجميع أن ما قاموا به هو من باب المحافظة على سلامتنا عند الغروب، وحماية لنا من خطر (داعش) التي تتمركز على بعد كيلومترين من إتريا التي يتمركز حاجز الكولونيل فيها. وسألنا: “هل أخذ عناصر الحاجز منكم شيئاً؟ هل فقدتم بالتفتيش أي أموال؟” كولونيل أوحى لنا بنزاهته وحرصه على حياتنا وأموالنا!

“غدًا مع الفجر تستطيعون العبور بأمان”، هكذا أخبرنا السيد الكولونيل. وزيادة في “اللطف” والرأفة، قال لنا: عودتكم في هذا الظلام إلى حلب ليست آمنة، بإمكانكم أن تبيتوا ليلتكم عندنا في “الاستراحة”. قلَبت “لطفه ورأفته”، فاجتاحني الشك وعدم الاطمئنان. قررت العودة إلى حلب ومن معي. ومن بين عشرة سيارات، بقي عنده في الاستراحة ركاب سيارتين، سنعلم بعد يومين، حين التقينا معهم مجددًا في مدينة الباب، أن السيد الكولونيل، ابتزهم وهم في ضيافته بخمسين ألف ليرة، ولم يؤمن لهم العبور.

سائقنا أبو عبدو، اكفهر وجهه، ليس لفشلنا نحن في العبور، إنما لتحطم أمله في المبيت في حضن زوجته، فازداد إصرارًا على زوجة ثانية للأيام المقبلة، يسكنها في مناطق سلطة النظام. فيما نحن واجمون عاجزون عن التفكير ماذا نفعل غدًا.

شبكة الاتصال بين الساعين للهروب خارج البلد، فتحت لنا طريق “لواء القدس”، المتمركز في مخيم النيرب، لكن بكلفة عالية. ولا خيار بديل فقبلنا، ومن فجر اليوم التالي، تحركنا، ودخلنا في عمق الصحراء، بعيدًا عن الطرق المعبدة. أربع حافلات بحمولة 200 راكب. طرقات تستطيع السير عليها الجرافات والدبابات وكاسحات الألغام، أما الحافلات فأمر شبه مستحيل، ويمكن أن تتعطل وتتحطم في عمق الصحراء.

من الفجر حتى الظهر، اقتربنا من أرض “دولة العراق والشام”، دون المرور من إتريا، حيث الكولونيل “اللطيف”. ارتدت النساء الزي الداعشي من وقت مبكر، والرجال خبأوا السجائر مع النساء، ومنهم من تخلص منها، وشغّل بعض الرجال مسبحته. لحظة ظهور موقع الحاجز الداعشي، وهناك لا أثر للحياة، ولا عناصر كثيرة كما عند حاجز الكولونيل. وسيلة تنقلهم دراجات نارية، تبدو خلفها زوبعة من غبار. توقفت الحافلات الأربع. صعد داعشي جاحظًا عينيه فينا، قلَب نظراته. أخذ الهويات، جمع الموبايلات، سأل عن السجائر. ثم سمع همس امرأة مع شاب فاتجه إليهما، وسألها: هذا زوجك.. إذن أخوك؟ قالت له: لا أيضًا، وعرفته أنه ابن جيرانها، فكانت علقتها وخيمة. وشرع يحاضر في الركاب، ويستهزئ من الفلسطينيات “يلبسن الفيزون في الشام، ويضعن المكياج ويختلطن بالرجال….” ولهجته ليبية صحراوية.

جاء دوري في التحقيق، لاستلم هويتي وموبايلي، وكان الداعشي، بلهجته التونسية، يطلب من شاب أمامي القيام بشرح طريقة الوضوء، لم يعرف الشاب شيئًا، فقال لي الداعشي: قل له كيف تتوضأ قبل الصلاة، ودون تفكير أجبته أنني لا أصلي. فأردف بسؤال: هل تشرب العرق؟ أجبته بسؤال: الآن؟ خفض رأسه وتمتم، ثم ناولني الهوية والموبايل.

ساعتان على الحاجز الداعشي، لم أكن خائفًا، إنما أحسست بالقرف من أزيائهم ووجوههم، وسخافتهم. عند الكولونيل “اللطيف” كان الرعب يسحقني ويبتلعني.

بين “أمير” داعش، وبين حاجز “الكولونيل” خمسة كيلو مترات مفتوحة، لا تلال ولا جبال. يعيشون في البيئة الطبيعية ذاتها، ويرسمون في أي لحظة حدودًا جديدة لسلطتيهما، لا أحد يعرف كيف تبدّلت، وبحسب المهربين، يتم ذلك أحيانًا دون اشتباكات، أو باشتباكات مفتعلة، ويؤثِر ذلك على التسعيرة الواجب دفعها لحاجز الكولونيل، وربما يؤثر اتساع رقعة (داعش) على اختناق النساء خلف النقاب مدة أطول خلال العبور. أما أبو عبدو السائق فيجد ضالته في هذا التقاسم بين الكولونيل والأمير ليطوِّب حقه بزوجة ثانية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق