هموم ثقافية

عروس الصحراء تدمر، الاستسلام للحاقدين أم إعادة الترميم

منذ بداية الثورة السورية تتعرض الآثار المادية وغير المادية في سورية إلى التدمير والقصف والسرقة، من قبل النظام وأعوانه، ومن قبل المافيا المنظمة، ولم تسلم كثير من المباني الأثرية في المدن القديمة والحية والمسجلة على قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، وعلى رأسها مدينة تدمر، عروس الصحراء السورية ودرتها، والتي لم تنج من القصف والتدمير بالطائرات الروسية وطائرات النظام، ولم تنج من حقد (داعش) على التاريخ، كما آذتها كثيرًا قذائف دبابات النظام التي كانت جاثمة في قلب تدمر الأثري.

قامت قوات النظام وروسيا بتدمير جزء من معبد بل، وهو أكبر معابدها وأشهرها، والذي تمت بداية عمارته في عام 32 ميلادي وانتهت في القرن الثاني الميلادي، وهو مُجمّع لعدة آلهة، بعل ويرحبول إله الشمس، وعجلبول إله القمر، وتبلغ أبعاده 210×205 م وارتفاع جدرانه الحجرية البيضاء حوالي 14 م، كما دمّرت جزءًا من سور المدينة القديم، وقامت بقصف القلعة وتدمير أجزاء هامة منها، والتي يرجع تاريخها لفخر الدين المعني الثاني في القرن السابع عشر الميلادي، وأغلب الظن أنها بُنيت على أنقاض قلعة يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى، وهناك خندق يحيط بالقلعة وبقايا جسر متحرك أقيم بين القلعة والخندق، كان يُرفع ليلًا وفي أوقات الخطر عند مهاجمة القلعة من الأعداء. كما عاثت به قوات النظام وميليشياته في المدينة تخريبًا وتهريبًا للقطع الأثرية، من المباني التي كانت محفوظة في المتحف الأثري؛ والموجودة في جميع أنحاء المدينة القديمة.

geroun photo templateسؤس

داعش هي الأخرى، أظهرت وجهها القبيح في المدينة، ودخلتها بتمثيلية واجتازت الصحراء من دون حرج، وانسحب جيش النظام باستسلام ودون قتال ومقاومة، فقامت بتدمير جزء مهم من معبد بل، وكذلك دمرت سنة 2015 معبد (بعل شامين) بشكل كامل، والذي يعود إلى العصر الروماني، وتمت عمارته على أنقاض معبد أقدم منه، وبني على عدة مراحل، ويرجع تاريخه إلى 17 م، واستمرت عملية البناء حتى عام 257 م.

إلى ذلك تعرّض مدخل المدينة القديمة للتدمير والتخريب في العام نفسه، حيث يقع الشارع الرئيس المستقيم في المدينة، ويرجع تاريخه إلى العصر الروماني، وتمت عمارته في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث ميلادي. وتم تدمير تمثال (الأسد) الذي يعود إلى العصر الروماني، ويرجع تاريخه إلى القرن الثاني بعد الميلاد. كما دُمّر ضريحان إسلاميان وسبعة من المدافن البرجية؛ التي نُسِفت نسفًا كامل، ويرجع تاريخ هذه المدافن إلى العصر الروماني، وكانت الأجمل عمارة وزينة والأكثر حفظًا، ويعدّ مدفن (كيتوت) الأقدم بين المدافن البرجية التي دمرتها داعش، ويعود تاريخه إلى العام 44 ميلادي، وفيه اللوحة الجنائزية التي تُظهر كيتوت وعائلته، وهو من أغنياء المدينة. كذلك تم تدمير مدفن يمليكو الذي يعود تاريخه إلى عام 83 م، وكان كذلك مدفن للعائلة كما هي العادة في تدمر القديمة، وقد قامت دائرة الآثار في المدينة بإدارة الراحل خالد الأسعد بترميمه بين عامي 1973 و1976م، وتم تدمير مدفن ايلا بل (الإله بل) وهو الأكبر والأشهر ويعود تاريخه إلى 103م، وكان محفوظًا بشكل جيد، ويتألف من أربعة طوابق وقبو أرضي، ومدخله من الناحية الجنوبية من المدينة.

والجدير بالذكر أن داعش قامت -كذلك- بعملية إجرامية؛ حين قتل عالم الآثار خالد الأسعد، الذي عشق تدمر، ويشهد كل شبر فيها أنها هي -أيضًا- بادلته نفس الحب والعشق.

geroun-photo-template

تعتبر مدينة تدمر من المدن القديمة، وهي مسجلة على قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو. وقد عثر -أثناء الحفريات الأثرية- على آثار ترجع إلى العصر الحجري الحديث، وقطع فخارية تعود إلى أواخر عصر البرونز القديم الممتد من 2200 إلى 2100 ق.م، وكانت مدينة مهمة في العصر السلوقي (312-64 قبل الميلاد)، وبقيت إمارة عربية ذات حكم مستقل في ظل الدولة السلوقية في سورية، وبعد ذلك في العصر الروماني؛ حيث كانت مدينة مزدهرة منحها الإمبراطور هادريان (117-138م) لقب مدينة حرة، وبفضل ذلك تمكنت من إصدار القوانين وفرض الرسوم الضريبة، وكانت مشهورة كمحطة تجارية على طريق الحرير الشهير، بين قارات أسيا وأوروبا والصين والهند، لأنها تقع في الصحراء بين نهر الفرات والبحر الأبيض المتوسط. وكانت عظيمة بملكتها زنوبيا الأسطورية بقوتها وشجاعتها وعلمها وجمالها. وتتناقل كتب التاريخ والآثار أخبارها، وتوثّق المسرحيات والأفلام والمسلسلات العالمية تراثها.

وتتميز أبنية تدمر بالفخامة؛ من حمامات وأسواق تجارية، وكانت تشتهر بثراء سكانها، وعمارة مقابرها البرجية المزينة بالزخارف الجميلة والمميزة، ولغتها التدمرية الجميلة التي بفضلها نعرف الكثير من سكانها بالاسم من خلال النقوش الكتابية التي تقدر بأكثر من ثلاثة آلاف نص منقوش باللغة التدمرية، والمئات من النقوش المكتوبة باللغتين التدمرية والإغريقية التي عثر عليها بين جدرانها ومعابدها والمدافن المبنية بشكل برجي تارة، وتحت الأرض تارة أخرى، بزخارف ما زالت تحافظ على وهجها ودقة رسمها وتماثيل متميزة بفنها ونحتها تظهر الغنى والترف الذي كان ينعم بهما سكان المدينة.

كذلك اشتهرت المدينة -أيضًا- بمعابدها التي كانت ملتقى الحجاج من جميع القبائل العربية التي تسكن في الصحراء السورية، وأهم معابدها معبد بل ومعبد بعلشمين ومعبد نبو، الذي يرجع إلى العصر الروماني، وقام بعمارته عائلة ايلابل وعائلة نبو شوري، وكذلك معبد اللات الذي يعود إلى العصر الروماني وتمت عمارته عام 148م، وجدد في 188م، وهو من الآلهة المشهورة عند العرب.

بالإضافة لتدميرها الآثار والتاريخ، قامت داعش بتدمير سجن تدمر، الذي يعدّ شاهدًا على قمع النظام السوري، ومسرحًا لعدة مجازر بحق المعتقلين السياسيين، أشهرها مجزرة 27 حزيران/ يونيو 1980م التي ذهب ضحيتها حوالي 550 قتيلًا، وبهذا التدمير أرادت داعش مساعدة النظام على طمس معالم إجرامه، ومحو الذاكرة من التعذيب بحق آلاف السجناء السياسيين.

هذا التدمير المُمنهج للتراث الثقافي يعدّ جريمة حرب؛ بل جريمة حرب كبيرة، لا يمكن أن تبقى من دون عقاب، ويجب عدم الاستسلام، والبدء منذ الآن، بالتواصل مع مراكز الأبحاث والجامعات والمتاحف والدول، للتفكير من الآن بسبل ترميم وإعادة بناء ما تدمّر، ووسائل استعادة ما سُرِق، ليتمكن السوريون من إعادة (فينيسيا الصحراء) شامخة بين واحاتها، ولا يجب الاستسلام للقتلة المُدمّرين.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق