أدب وفنون

شعر التانكا ونقار الخشب

كان يعلم أن الخريف الذي كتبَ له وأحبّهُ سيجيئ إلى حياته مبكرًا، لتسقطَ آخر القصائد بين يديه، وليسابقَ الوقت بالشعر وللشعر وحده.

حدْس الشاعر نجمهُ، على ضوئه ينسج القصائد، متيقنًا في سرّه من خلود ما يحب، تفاصيله الصغيرة تلك التي لم يعطه العمر مزيدًا من الوقت؛ كي يقول لها ببساطةٍ: صباح الخير، كما فعل العمر مع مركب (رامبو) السكران، في رحلته القصيرة.

“لامعٌ كنصلِ السيف، قاسٍ جدًا في وضوح عباراته، هذا ما يقوله قارئٌ يابانيٌّ عن إيشيكاوا تاكو بوكو، أو عن هاجيميه إيشيكاوا، الاسم الحقيقي لهذا الشاعر الياباني الأسطورة”

بهذه المفردات يقدم لنا الشاعر والمترجم السوري محمد عُضيمة، المقيم في طوكيو منذ أكثر من ربع قرن، والذي سبق أن ترجم إلى العربية عددًا من الأعمال الشعرية أهمها: كتاب الهايكو الياباني -أنطولوجيا الشعر الياباني الحديث- تمارين على قراءة الشعر الياباني القديم؛ إضافةً إلى الأعمال الشعرية الكاملة لتاكو بوكو، التي صدرت بالتعاون مع المستعرب الياباني كوتا كاريا عن دار التكوين في دمشق. وقد ضمَّ الكتاب مجموعتين شعريتين له، كان قد أعدهما وأختار نصوصهما بنفسه، في كل ما كتب ونشر سابقًا في الصحف والمجلات، المجموعة الأولى “كمشة رمال” نُشرت في حياته.

يا لحزن هذا الرمل الذي لا حياة بهِ

ما إن نقبض على بعضه

حتى يأخذ بالتسرب من بين الأصابع.

 

و (الدمية الحزينة) المجموعة الشعرية الثانية، التي كان إيشيكاوا قد أعطاها لصديقه لتنشر بعد وفاته، حيث نقرأ في أغلب المقاطع معاناة إيشيكاوا الطويلة مع المرض، خلال إقامته في المستشفى.

 

يومَ ترتفعُ حرارتي قليلًا وليس هناك ما أتكل عليه

أقلقُ ويصيرُ القلب

مثل حيوانٍ أليف.

 

 

 

ولد هاجيميه إيشيكاوا سنة 1886 في قرية هينوتو شمال شرق اليابان، كان الابن البكر للعائلة، الأمر الذي سيحمله متاعب و مسؤوليات فيما بعد، عندما يخسر الأب عمله في أحد الأديرة البوذية.

في عام 1901 نُشرت له ست قصائد تانكا، كانت المرة الأولى التي ظهر فيها شعره واسمه، يترك بعدئذ المدرسة، وهو في المرحلة الإعدادية، بعد أن ضُبط يغش في أثناء الامتحانات.

سافر بعدئذ إلى طوكيو، تعرف على المجموعات والأوساط الشعرية هناك، نشر عدة قصائد ومقالات في مجلة ميوجو، باسم جديد (تاكو بوكو) أي نقار الخشب باليابانية.

راح ينقر قواعد التانكا الأساسية والمعروفة، والتانكا باللغة اليابانية تعني “أغنية قصيرة”، وهي قصيدة ذات تاريخ عريق، نجد نماذج منها في أل “مانيوشو”، وهو أحد أقدم المؤلفات اليابانية الذي يعود إلى القرن الثامن الميلادي، تتألف قصيدة التانكا من 31 مقطعًا صوتيًا ينتظم في خمسة وحدات إيقاعية (5ـ 7ـ 5ـ 7ـ 7) موزعة على خمسة أسطر. أما قصيدة الهايكو التي غدت اليوم مشهورة عالميًا، فهي تشمل الأسطر الثلاثة الأولى من قصيدة التانكا.

كحجرٍ يتدحرجُ

من أعلى الطلعة

وصلتُ إلى هذا اليوم.

 

في مرحلة مهمة من تاريخ اليابان الحديث ،أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، كان لتاكو بوكو دربه الأخرى صوب قصيدة التانكا،  حيث رياح التغيير بدأت تعصف بالمجتمع الياباني على جميع صعد الفنون، بما فيها الشعر (الرمزية الرومانسية الانطباعية) التيارات الأدبية الأوروبية، الجديدة على مفهومات  القارئ الياباني،  لابد للشعر من أن يكون قويًا قادرًا على حمل الموروث والتباهي بشكله الجديد وسط تلك التغيرات، وجد تاكو بوكو في أغنيته القصيرة ، تربة نضرة، يستطيع أن يحرث القديم فيها، وينصب جذور أغنيته الجديدة:

(لم يصر على تقديم نفسه شاعرًا حديثًا بأي ثمنٍ، وانصرف إلى كتابة التانكا، لكن ليس بشكلها التقليدي الموروث، وإنما بالعمل على تحريرها) كما يقول عُضيمة.

حقًا تعذبني

الطباعُ التي عندي:

فصوت الخريف يصلُني بسرعةٍ وقبل الآخرين.

المباشرة، الوضوح، البساطة، اليومي، الحزن، التمرد، الخيبة، والألم، ما يعطي قصيدة تاكو بوكو وقعًا قد يكون سهلًا على القارئ العربي الذي اعتاد على الاستعارات والزخرفات والبلاغة، أو ربما سيتساءل أحدهم عن الشعر في تلك المقاطع، خاصة أنها تخلو من خصوصية التانكا في الإيقاع، لكنه،  وهو القارئ والمعجب بأبي الفوضى الروسي، كروبوتكين (لم يقدم نفسه شاعرًا فوضويًا و لا حتى ملعونًا، أراد أن يقول ببساطة: أن لا مكان له في يابان تلك الأيام، لقد تخلص باكرًا من وهم الشعر المحض، أو الإلهام الشعري الخاص؛ ليبدأ بنوع من التدوين اليومي لأفكاره) كما يصفه عُضيمة.

1907 أجبر الشاعر الثائر على ترك عمله، مدرسًا بديلًا، عندما حرّض التلاميذ ضد مدير المدرسة، فانتقل منه إلى عمل آخر في جريدة محليّة، سرعان ما تركه أيضًا.

بين حياة الوحدة والفقر والانتقال من عمل إلى آخر في المناطق الشمالية النائية، استسلم تاكو بوكو للشرب وسط نساء الغايشا “الراقصات”، وكتب لإحداهن (كوياكو)، عددًا من القصائد التي تظهر ملامحها في: “الذين ننساهم بصعوبة”

يا لتلك المرأة التي أجابتني: انظر إلى….

لما سألتها ألا تشتهين الموت؟

وأرتني في عنقها آثار جرحٍ قديمٍ.

خلال يومين وسط العزلة والشرب والفقر كتب أكثر من 200 قصيدة تانكا.

بدأت حالته الصحية تسوء بدءًا من سنة 1911، نُقل على إثرها إلى المستشفى، ليرحل شاعر التانكا في الثالث عشر من نيسان 1912، تاركًا خلفه أكداسًا من المخطوطات التي ستكون من كنوز ومفاخر الأمة؛ فيبكيه الجميع وينسجون حوله القصص والحكايات:

“هذا شاهدهُ مرةً في الحديقة وكان غريبًا في مشيته، وآخر صادفه، وهو يتكلمُ مع نفسه، وثالثٌ كان جارًا له، وساعده في فتح الباب يوم عاد سكرانًا آخر الليل”

 

لا شفاءَ

ولا موتَ

فقط يزداد القلبُ قسوةً كلَّ يومٍ في أشهر الصيف الأخيرة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق