احتلت فكرة الاختلاف موقعًا مهمًّا في الفلسفة الغربية عمومًا، والفلسفة الفرنسية خصوصًا، منذ ستينيات القرن الماضي، على الأقل. وانتقل الاهتمام بهذه الفكرة -لاحقًا- إلى ثقافة “النخبة” العربية التي بات كثيرٌ من أفرادها يشدد على أهمية هذه الفكرة في الميادين الثقافية والاجتماعية والسياسية، وغيرها من الميادين. لكن لم يكن نادرًا أن نجد من يروِّج لفكرة الاختلاف، ويتعصب لها لدرجةٍ تجعله لا يحتمل وجود من يختلف عنه في الرأي، في خصوص هذه الفكرة أو غيرها. وهو -في ذلك- مثله مثل من يحب الإنسانية؛ لكنه يكره البشر، كل البشر.
يمكن للاختلاف أن يتخذ أشكالًا متعددةً ومتنوعةً؛ إذ يمكن للاختلاف، في ميدان القانون، أن يتخذ صيغة الجنحة أو الجريمة، والاتهام والدفاع عن المتهم، وفي الفكر اليومي يتخذ صيغة الخطأ، وفي ميدان الأخلاق، يمكن أن يتخذ صيغة الخطيئة … إلخ. وسنقتصر في السياق الحالي، على الحديث عن بعض أشكال الاختلاف في الميادين الدينية والسياسية والفكرية أو الثقافية-النخبوية.
الاختلاف، في الميدان الديني، هو كفرٌ، بقدر صلته بالعقائد الأساسية لهذا الدين. فالدين هو ميدان الدوغمائية أو الوثوقية، أي ميدان الحقائق المطلقة والثابتة والنهائية بامتيازٍ. ولا تفسح هذه الحقائق أي مجالٍ لوجودٍ مشروعٍ لحقائق مختلفةٍ عنها أو مخالفةٍ لها. وتفسر دوغمائية الدين/الفكر الديني وسمات الحقيقة الدينية المذكورة سيادة التكفير وانتشاره الكثيف، في الخطابات الدينية (التقليدية منها، على الأقل). وقد سمح هذا الانتشار بالربط بين الذهنية الدينية والتكفير من خلال الحديث عن ذهنية التكفير الدينية. ولا تقتصر ذهنية التكفير هذه على ممارسة نشاطها بين الأديان، أي تكفير (أتباع) كل دينٍ لأتباع الدين الآخر، بل هي سائدةٌ ومنتشرةٌ بين أتباع الدين ذاته أيضًا، وربما خصوصًا. فالخطأ أو الاختلاف في فهم الدين هو، في كثيرٍ من الأحيان، كفرٌ، بغض النظر عن كون “مقترف هذا الخطأ” أو متبني هذا الاختلاف مؤمنًا ومتديّنًا أم لا. فعلى العكس من القول الشائع “اختلاف أمتي رحمةٌ”، يبدو واضحًا أن الاختلاف، في الميدان الديني، هو نقمةٌ، في معظم الأحيان على الأقل.
في الميدان السياسي، تختلف الصيغ التي يظهر فيها الاختلاف باختلاف الإطار السياسي الذي يوجد فيه هذا الاختلاف. لكن يمكن لهذه الصيغ أن تتراوح بين الخلاف والخصام والمجادلة والمناظرة والصراع السلمي الخطابي العنيف (في حال وجود ديمقراطيةٍ أو متطلبات الحوار والصراع السياسي السلمي)، من جهةٍ، وبين العداء والصراع المادي العنيف والاقتتال والحرب، في حال غياب الديمقرطية والمتطلبات الأولية للحوار والصراع السياسي السلمي. في الحالة الأولى، يعترف كل طرفٍ بشرعية وجود الطرف الثاني وبأحقية هذا الوجود، لأنهم يعتقدون أن هذا الوجود قد تم بطرقٍ مشروعةٍ ومقبولةٍ وتمنح فرصًا متساويةً -نسبيًّا- لكل الأطراف المشاركة في الميدان السياسي. لكن حين يغيب هذا الاعتقاد وتسود القناعة بأن النظام السياسي القائم لا يسمح بمنافسةٍ عادلةٍ مع المختلف سياسيًّا، ولا بالتعامل مع الاختلاف السياسي بطرقٍ سلميةٍ مجديةٍ، يتخذ الاختلاف، في هذه الحالة، شكل الحرب التي يريد فيها كل طرفٍ القضاء على الطرف الآخر. العقل السياسي، من حيث المبدأ، عقل براغماتيٌّ بالدرجة الأولى، بمعنى أنه يركز اهتمامه على النتائج أكثر من تركيزه على أي شيءٍ آخر. وفي خصوص الاختلاف، يميل العقل السياسي إلى إقصاء خصمه أو الانتصار عليه، بكل الطرق المشروعة (في النظام الديمقراطي خصوصًا)، وغير المشروعة (في النظام غير الديمقراطي خصوصًا). باختصارٍ، الذهنية السياسية ذهنيةٌ قتاليةٌ تسعى إلى الفوز والتفوق على المختلف؛ حتى لو كان المختلف حليفًا.
في ميدان التنظير الفكري والفلسفة والثقافة النخبوية، وعندما يكون الحديث عن الاختلاف عمومًا، يُشدَّد على مشروعية الاختلاف وضرورة التعدد وفائدة التنوع… إلخ. ويتبنى هذا التشديد حتى أولئك المعتقدين بامتلاكهم للحقيقة المطلقة الواحدة والرؤية الشاملة الوحيدة؛ لأن هذه الحقيقة أو تلك الرؤيا تتضمن، من وجهة نظر أصحابها، كل أشكال الاختلاف والتعدد والتنوع الممكنة والضرورية. وإلى جانب أصحاب الحقائق المطلقة والرؤى الشاملة، يسود الحديث في هذا الميدان عن أن أفكارنا ومعتقداتنا تمثل منظورًا أو وجهة نظر، أو رؤية محدودةً مرهونةٍ بمعطياتٍ معرفيةٍ محددةٍ وسياقٍ تاريخيٍّ وفكريٍّ معينٍ. وفي حالة الاختلاف في هذا الميدان، فإن العقل السائد هو غالبًا عقلٌ نقديٌّ. ولا يعني النقد التمجيد والتقريظ والإشادة؛ لأنه إلى جانب الإشارة إلى الإيجابيات في الموضوع المنقود، يتضمن النقد -بالضرورة- انتقاد المختلف، بما يعنيه ذلك من تخطئةٍ وإظهار السلبيات أو إبرازها. والنقد أشبه بمحكمةٍ يمارس فيها الناقد دور القاضي، بالدرجة الأولى، مع استحضارٍ لمحامي الدفاع، بالدرجة الثانية. لكن محكمة النقد الفكري لا تصدر، أو لا ينبغي لها أن تصدر حكمًا مبرمًا ونهائيًّا؛ لأن قابلية استئناف الحكم، في هذا السياق، محفوظةٌ دائمًا، أو ينبغي لها أن تكون كذلك على الأقل. باختصارٍ، ذهنية الاختلاف، في هذا المجال، هي ذهنيةٌ نقديةٌ، بالدرجة الأولى، وهي ذهنيةٌ تحاكم المختلف، وتحاول أن يكون حكمها عادلًا، بحيث يأخذ في الحسبان إيجابيات المختلف وسلبياته، في الوقت نفسه.
التمييز بين الميادين الثلاث نظريٌّ ونسبيٌّ بالتأكيد؛ لأن التداخل بين هذه المجالات، في كثيرٍ من الأسيقة، شديدٌ، لدرجة يصعب الفصل بين هذه الميادين، في كثيرٍ من الأحيان. فغالبًا ما يكون للفلسفة والفكر عمومًا دورٌ أو بعدٌ سياسيٌّ، مقصودٌ أو غير مقصودٍ. والتداخل بين الدين والسياسة، في السياق العربي، مثلًا وخصوصًا، واضحٌ وشديدٌ لدرجةٍ مؤلمةٍ، في كثيرٍ من الأحيان. لكن هذا التداخل لا يعني عدم وجود حدودٍ بين هذه المجالات، ولا ينفي أهمية، أو ضرورة، عدم الخلط بينها في بعض الأسيقة. وسنشير إلى وجود نوعي الخلط: “المستهجن” و”غير المستهجن”، في حالةٍ أنموذجيةٍ تتمثل في تعامل بعض المفكرين العلمانيين العرب مع الدين أو الفكر الديني (الإسلامي تحديدًا أو مثلًا).
يغلب على تعامل بعض العلمانيين العرب مع الدين و/أو الفكر الديني ذهنية القتال السياسية، بحيث يتركز اهتمامهم على إقصاء الدين، من المجال العام على الأقل، مع تحبيذ القضاء عليه، وإلغاء وجوده نهائيًّا (حتى في المجال الخاص)، في معركةٍ يعدونها أم المعارك، بل وكل أفراد عائلتها أيضًا. ولا يبدو تسييس الفكر، في هذا السياق مستهجنًا أو مرفوضًا، من حيث المبدأ، إذا أخذنا في الحسبان أن فكرة العلمانية مرتبطة بالميدان السياسي ارتباطًا مباشرًا، وأن تسيس الفكر العلماني هو رد فعلٍ “طبيعيٌّ” ومشروعٌ على التسييس المسبق للدين والتديين المستمر للسياسة. “المؤسف” في بعض تجسدات هذا الفكر العلماني هو خضوعه، في خياراته أو اختياراته السياسية، للتخيير المفروض على معظم الشعوب العربية من الأنظمة الاستبدادية الحاكمة: “إما أنا (الديكتاتور) أو الفوضى (التطرف الديني)”. ومن نافل القول أن هؤلاء العلمانيين يختارون تأييد الديكتاتوريات المستبدة؛ بحجة أنها أقل الخيارات الممكنة سوءًا، بدلًا من أن يعارضوا هذا التخيير المصطنع من أساسه، وأن يعارضوا المستبد الذي يعمل على فرض هذا التخيير واستمرار وجوده.
كثيرًا ما يفضي تسييس الفكر، ودخوله معترك المعارك السياسية والأيديولوجية المباشرة، إلى إفقار أو إضعاف سمته النقدية –بوصفها نظرةً “موضوعيةً” إلى سلبيات الموضوع المنتقَد وإيجابياته، في الوقت نفسه– لصالح التركيز على الانتقاد وإظهار سلبيات هذا الموضوع؛ ويبلغ هذا الإفقار أو الإضعاف ذروته حين يتدين هذا الفكر إضافة إلى تسيسه. ويظهر تدين هذا الفكر العلماني في تبنيه لعقلية التكفير الدينية ودوغمائيتها. فهؤلاء العلمانيون يصدرون أحكامهم الجازمة والوثوقية على الدين، وهي الأحكام التي تؤكد سلبية الدين/الفكر الديني، وعدم إمكانية تكيفه مع متطلبات الحداثة والمعاصرة، ولا يرضى معظم هؤلاء العلمانيين بأي تأويلٍ مختلفٍ عن تأويلهم للدين، ولا بالإمكانية المشروعة والموضوعية لوجود مثل تأويل كهذا. فالأفكار والنصوص الأساسية المؤسِّسة للدين تتعارض -بالضرورة- مع العلم والعلمانية والعقلانية والديمقراطية… إلخ، وخيارات الفكر الديني تقتصر على واحد من أمرين: إما الاعتراف بهذه الحقيقة، ثم الاختيار بين الدين والحداثة، أو الكذب والنفاق وادعاء إمكانية التوفيق بين هذين النقيضين (الدين والحداثة).
إن الشحنة القتالية التي يتضمنها الفكر العلماني، بسبب ارتباطه بالسياسة، تدفع بعض متبنيه و”المؤمنين” به إلى محاربة الفكر الديني ومحاولة الانتصار عليه بكل الطرق المشروعة (وغير المشروعة أحيانًا)، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، يتبنى بعض هؤلاء العلمانيين الذهنية الدينية نفسها التي يحاربونها: الدوغمائية والأحادية الاختزالية والرفض المطلق للاختلاف، وتكفير من لا يتبنى الرؤية المعرفية التي يرى هؤلاء العلمانيون أن الدين يتضمنها بالضرورة. وانطلاقًا من هذه الرؤية المعرفية، يكون الفكر الديني الصادق والحقيقي، هو الدين كما يراه أو يفهمه هؤلاء العلمانيون، وأي فكرٍ دينيٍّ مخالفٍ لهذا الفهم هو فكرٌ زائفٌ وغير صادقٍ، بقصدٍ أو بدونه. وغالبًا ما تتطابق، على الصعيد المعرفي، نظرة المعادين للدين مع نظرة المتطرفين الدينيين، ويقتصر الاختلاف بينهما على الصعيد التقييمي للدين.
على العكس من ذهنية التكفير العلمانية (والدينية)، نعتقد أن الدين (الإسلامي)، بوصفه نصوصًا يتأسس عليها الفكر الديني (الإسلامي)، يفسح، من حيث المبدأ، وأفسح بالفعل، مجالًا لأشكالٍ ومضامين مختلفةٍ ومتناقضةٍ من الفكر الديني. وإذا استخدمنا مصطلحات صادق جلال العظم: إن “الإسلام العقائدي” (بوصفه إسلام القرآن والرسول) سمح ويسمح بأشكالٍ بالغة التنوع، بل والتناقض، من “الإسلام التاريخي”، ولا ينبغي للعلمانيين نفي إسلام بعض أشكال أو مضامين هذا “الإسلام التاريخي”، لمجرد أنها تختلف عن تأويلهم ورؤيتهم المعرفية ﻟ “الإسلام العقائدي”.
إذا أراد واستطاع الفكر العلماني التخلص من بعض أشكال التأثير السلبي للسياسة فيه، وإذا حاول التخلص من تبني “ذهنية التكفير” المحايثة للدين، لدرجةٍ أو لأخرى، ونجح في هذه المحاولة، فينبغي له الإقرار بأن الأشكال والمضامين المختلفة لدرجة التناقض من الإسلام التاريخي قد تأسست على الإسلام العقائدي أو الدغمائي ذاته، وبأن هذا التأسس لم يكن ليتم لولا أن هذا الإسلام الأخير يسمح، لدرجةٍ أو لأخرى، وبطريقةٍ أو بأخرى، بهذه القراءات والتأويلات المختلفة. وانطلاقًا من هذا الإقرار، وبغض النظر عن البواعث السياسية التي تدفع بعض العلمانيين إلى قبول أو عدم قبول إسلامية هذا الإسلام التاريخي أو ذاك، نعتقد أن الأمانة أو الموضوعية المعرفية، على الأقل، تقتضي الابتعاد عن تكفير من يختلف مع تأويلنا للدين، طالما أن هذا الاختلاف يتأسس، بطريقةٍ ما ولدرجةٍ ما، على النصوص المؤسِّسة لهذا الدين. فالاختلاف بين إسلام محمود محمد طه وإسلام جعفر النميري (الذي قام بتكفير الأول وإعدامه)، أو بين إسلام نصر حامد أبو زيد وإسلام محمد صميدة عبد الصمد (الذي رفع دعوى عليه بتهمة الردة)، أو بين إسلام محمد شحرور وإسلام جودت سعيد وإسلام البوطي وإسلام أبو بكر البغدادي وإسلام أبو محمد الجولاني ليس اختلافًا بين الإسلام والكفر أو بين الإسلام واللا-إسلام، وإنما هو اختلافٌ في الإسلام وضمنه، بين تأويلاتٍ مختلفةٍ تستند كلها إلى النصوص الدينية المؤسِّسة لهذا الدين. صحيحٌ أنه لا يمكن فهم هذه الاختلافات بمعزل عن الصراع السياسي المحيط بها والمنخرطة فيه، لكن من الصحيح أيضًا أن هذه الاختلافات تتأسس أيضًا على مضامين النصوص الدينية المؤسِّسة لهذا الدين.
قد لا يكون مناسبًا أو مجديًا، في الوضع الحالي، مطالبة الفكر الديني التخلص من “ذهنية التكفير”، ليس لأن مشروعية الفكر الديني قائمةٌ -أساسًا- على التبني الدوغمائي لرؤيةٍ محددةٍ حيال الدين وتكفير كل من يخالفها، فحسب، بل -أيضًا- لأن الصراع السياسي-الديني-الطائفي المحتدم في منطقتنا العربية؛ نتيجةً للإفراط في تسييس الدين وتديين السياسة، لا يسمح على الأرجح، في الوقت الحالي، على الأقل، ببروز أو شيوع فكرٍ دينيٍّ متسامحٍ مع الاختلافات الأساسية، ومتقبلٍ لها، أو حتى قابلٍ بها. لكن قد يكون من الضروري أن يتنبه بعض العلمانيين العرب إلى أن المواجهة العنيفة للعلمانية مع الدين قد أفضت، أحيانًا على الأقل، إلى تديُّن ذهنية الفكر العلماني العربي، والإفراط في تسيُّسها، أكثر مما ساعدت على علمنة الدين وتحييده في المجال العام.