هو -هكذا- نظام وظيفي، أتقن التشبيح الداخلي والإقليمي والدولي، وأصبح بارعًا فيه، باع واشترى، وقدّم خدماته الأمنية وغيرها؛ ليتربع على الأعناق قرابة نصف القرن من الزمن، دخل كالسوس في القضية الفلسطينية منذ أيلول الأسود؛ حتى محاصرة مخيم اليرموك أخيرًا، مرورًا بما فعله ببيروت، متقاسمًا المهمة مع “إسرائيل”، لتدمير حتى سُبل التفكير البسيط بالقضية، كي لا تُنبت غرسًا سليمًا معافى يُتقن أدواته، ولاحق الراحل ياسر عرفات؛ حتى مؤتمر القمة في بيروت، ومنعه من إلقاء كلمته عبر “سكايب”، وكسر الحصار عنه في الضفة.
استطاع هذا النظام في الداخل السوري، منع السوريين من التحدث بالقضايا الكبرى، ومنع عنهم الحراك السياسي والثقافي وغيره، وأتحفنا بقانون طوارئ لا يصلح سوى مرجعٍ في أحد متاحف الألم السوري الذي ما زال ممتدًا، لاستذكار أسباب انهيار الوطن بكل مفرداته، فأصبح السوريون جميعهم متهمين في شكل ظلّهم السائر على الأرض وحجمه، ودُرست لهم أحجام نعالهم، ونوع أشرطة الكاسيت التي يرقصون عليها، فكان علي الديك بصياحه في الأعراس، وجورج وسوف بحنجرة الطرب التي تحتاج أطنانًا من الزيوت لتمرينها، لكنها تُركت كما هي عليه، لتكون متناغمة مع مرور باصات النقل الداخلي التي شوّهت مع مؤسسة إنشاءات النظام العسكرية، وأختها مؤسسة الإسكان الذوق العام السوري للرؤية والسمع والرائحة.
إنها “سورية الأسد”، تُعرف -أيضًا- بأنها سورية التي اقتُطعت منها مساحة للرشوة الدولية، في مشروع الإمبريالية التي لطالما هتفت النظام ضدها، وملأ صراخ تنظيماته الشعبية المدى؛ مطالبًا بالحقوق، متابعًا رتم صراخ الأسد الأب الذي عدّ الجولان في وسط سورية، لتبقى سورية بعد عقود من الصراخ، بلا الجولان، فتُصبح، كما قال عنها حازم نهار، في مداخلته في إسطنبول: إنها تُحكم من الجولان.
في إطار الاستشهاد بحازم نهار، يلفت النظر بضعة تعليقات على صفحته العامة في “فيسبوك”، تنتقد مركز (حرمون) بشأن ندوة عقدها أخيرًا عن الجولان، حين عدّ أنه يحكم سورية، وهي انتقادات تسير -للأسف- بنسق قانون الطوارئ ذاته، الذي سار بالوطن إلى الهاوية، فقانون الطوارئ المشؤوم، كما وعد بلفور، هو ابن القضية الفلسطينية وقضية الجولان، هو ابن شعارات التحرير ذاتها التي أطعمت السوريين مرارة الحرمان، فخسرت أجيال كثيرة أجمل سني عمرها، وخسر الوطن الجولان، وبقيت وحدها أوركسترا الممانعة تستحضره متى وجدت فيه مادة للإعدام، أو للقبض على المُشتبه بهم بعشق الحرية وبناء الدولة الوطنية، أو للمراهنة على طاولة القمار.
مُنع على السوريين؛ حتى الاقتراب إلى الشرق من الشريط الشائك بين الجولان المحتل والمُتبقي لكيلو مترات عديدة، وحُرم السوريون من معرفة أرضهم وجغرافيا حركتهم، ورطوبة جبلهم الغربي، ولوحق كل من دعا حتى لاحتفال بيوم الاستقلال في عين التينة قرب القنيطرة، وفُرض على كل من يريد زراعة بقعة أرض ورثها عن أهله في الجولان الذي قيل إنه محرر، الحصول على موافقة أمنية للعمل، وحوصرت حتى النيات، عبر فرع سعسع إلى الجنوب الغربي من دمشق، وأصبحت الأرض جرداء؛ لتخضرّ هناك على الجهة الأخرى؛ حيث الاحتلال.
هناك في الجولان المحتل رعت “إسرائيل” حتى رياضة التزلج، ورعا النظام الانزياح السّكاني من الجولان نحو العاصمة، فعاش النازحون في وطنهم، كزيادة عدد غير مرغوب فيها، ضمن أحياء يقطر منها البؤس بجوار العاصمة، وتُركوا عُرضة للابتزاز السياسي والأمني والاقتصادي الداخلي، وبات السوريون لا يعرفون عن الجولان سوى بلدة مجدل شمس وجوارها المحتل، ولا شيء غير ذلك، فأضاع النظام نحو 800 ألف نسمة، ينتمون إلى هذه الجغرافيا، وينتشرون في أزقة الفقر السورية، الناشئة مع نمو الحركة التصحيحية، فتدمرت النفوس في أعماقها، وتركت مُرتعدة من كل شيء، وقلقة ومتشككة في كل شيء.
جاءت الثورة لتحرر الفكر واللسان والطاقات، فيسأل بعضهم -الآن- كما كان يسأل النظام، ما لكم والجولان، ويتذرّعون بأن سورية تُذبح من الوريد إلى الوريد، ومحافظات بأكملها دُمّرت، ويذهبون نحو اعتقاد بأن إسرائيل ستغضب إن ذكرتم موضوع الجولان، وستحل اللعنة عليكم وعلى ثورتكم وأحزابكم ومخيماتكم وإبداعاتكم، وكأن كل هذا يعيش الآن بنعيم، أو بالمختصر يريدون القول: أن اتركوا رامي مخلوف يُساوم كما فعل منذ بداية الثورة على الجولان، ويُذكّر الجميع بقدرة نظامه على حفظ أمن الربيب الغربي لهذا النظام، وابتعدوا عن قضاياكم، فأنتم أيها السوريون كما كنتم قاصرين في عهد الأسد، عن مناقشة قضاياكم الكبرى والصغرى، وممنوعين حتى من حق التمتع بحدائق منازلكم، أو بشكل ومتانة أبواب بيوتكم الخارجية، وتركها فريسة للأمن يركلها متى وكيفما شاء، عليكم أن تُعارضوا في متر مربع واحد فقط، مُحاط بالمحاذير كلها، لا يعنيكم سوى أن تُنشئوا أحزابًا، وإن مشوّهة، أو تيارات أو أي شيء له رائحة السياسة بالابتسامات، وتكلّموا بمحاذير الزمن عن دفء الوطن في لوحة فسيفسائه وبرلمانه المأمول لكم وبكم؛ حتى لو كانت تُشبه مرض البُهاق.
إن من ينظر إلى المشهد بتأن، سيرى -فعلًا- أن الجولان يُحكم سورية نعم، ومن الجولان تُدار خرائط الطيران التي ترمي براميلها على بيوت السوريين؛ ولأن الجغرافيا كما هي نعمة، ممكن أن تُصبح نقمة، كان للسوريين نقمتهم، بنظام هنا، و”إسرائيل” هناك، وأرض هي الجولان، يحمل كلّ منهما كرت اللعب به -ومن خلاله- في كل القضايا الداخلية والخارجية.
يريد بعض المعارضين أن يبقى في احتياط فريق كرة القدم، يجول ويُحمّي بجوار الملعب؛ حتى تنتهي اللعبة، وحبذا لو انتهت تعادلًا؛ كي لا يُسجل أحد من لاعبي فريقه هدفًا؛ فيحصد نتائج، هكذا يتعاملون -للأسف- مع قضاياهم الوطنية، أو ربما كلاعبي “بلايستيشن” من خلف شاشة، دون الدخول إلى عمق القضايا، فظن بعضهم أنه تمرير الكرة إلى الخصم، ليُسجل هدفًا جديدًا على شعبه، سيكون ماهرًا، فذهب قاصدًا “إسرائيل”، وعارضًا خدمات اللعب والتمرير أو الزواج غير الشرعي، مع ملفات البؤس والقتل، ولم ينتبه إلى أن إشارات القضايا الكبرى هي من تحكم القضايا الأخرى، وأن بيروت العاصمة الأقرب للشام، كانت قد دُمّرت ومنع عنا الهواء، كونها حاولت أن تنهض كمنارة، نعم لم ينتبه إلى أن نشوء إسرائيل ليس له علاقة بالشعب اليهودي، بل بشرق أوسط ممنوع من النمو والتطور والالتقاء، وإسرائيل -كما نُظم الاستبداد- لها الدور الوظيفي ذاته، الممارس على أعناق شعوب المنطقة.
للأسف لم تُدرك -أيضًا- قوى المُعارضة حجم الأوراق التي يجب عليها امتلاكها؛ للتفاوض على قضايا وطنها، ولم تُدرك أن قطع أذرع النظام التي يتحرك بها، من خلال سحب القضايا كافة من يده هو باب خلاصها، واعتقدت أن تغيير النظام يكون بالدخول إلى قصره فحسب، وملاحقته في الجبال السورية، أو بجعله يغادر، لتتمترس هي في تلك الأبنية المُطلة على دمشق، وتقرأ البيان رقم واحد.
للأسف؛ حتى الآن لم يتوصّل بعضهم إلى أن البيان رقم واحد، يُقرأ حين تمتلك قضاياك، وتمتلك أدواتك للتحرك بها، على الأقل إن لم تكن على طريقة حسابات رجل الدولة، فليكن على طريقة حسابات الربح والخسارة، فأيّهما أربح، أن تكون قضاياك بيدك، أم بيد من يبيعها ويبيعك معها، هكذا هو الجولان، حيث يحكم سورية.
دلالية: الجولان, ندوة, إسرائيل, قضايا, الأسد, النظام, الاحتلال.
تعريف: للأسف حتى الآن لم يتوصّل البعض إلى أن البيان رقم واحد، يُقرأ حين تمتلك قضاياك وتمتلك أدواتك للتحرك بها، على الأقل إن لم تكن على طريقة حسابات رجل الدولة، فليكن على طريقة حسابات الربح والخسارة، فأيّهما أربح، أن تكون قضاياك بيدك، أم بيد من يبيعها ويبيعك معها، هكذا هو الجولان، حيث يحكم سورية.