مقالات الرأي

ما العمل؟

ليس السؤال المطروح في العنوان سؤالًا حول ماهية العمل بذاته، بل حول ما الذي يمكننا فعله في ظل الاستعصاء القائم، محليًا وإقليميًا ودوليًا، والذي تتجمع عناصره لتغلق الدائرة التي انفتحت منذ خمس سنوات ونصف، ويشكل بداية مرحلة جديدة من الرداءة المجبولة بالتفاهة السياسية، والمعمَّدة بردّة ديمقراطية نحو الأوليغاركية، ونكوص عالمي عن القيم المُحرَزة حضاريًا، تلك القيم التي دفعت الشعوب ملايين الضحايا؛ حتى استطاعت تحويلها من قيم عامة إلى قوانين وشرائع حقوقية وإنسانية.

في ظل هذا المأزق المقيم إذن، يلحُّ علينا السؤال القديم، البسيط والمعقد: ما العمل؟ كيف نخرج من تلك الدائرة التي توصد أبوابها علينا وعلى شعوبنا؟ هل نستسلم لليأس الذي يتجلى مرة في هيئة “مصالحة وطنية”، ومرة موتًا ودمارًا عميمًا، ومرة نزوحًا وهجرة، ومرة في صورة انتظار يغرق في السواد ضمن المنافي البعيدة والقريبة؟ هل نقرُّ بالهزيمة التي تغيّر شكلها عبر الزمن دون تغيير مضمونها، تلك التي ابتدأت خارجية بمسميات، مثل: نكبة ونكسة، وانتهت داخلية بمسميات، مثل: حافظ الأسد والأبد ثم بشار أو نحرق البلد؟ هل نغرق بجلد الذات واتهام أنفسنا بما يتهمنا به من يقتلنا، أم نعلّق خيباتنا على مشجب عالم لا يكترث لما يصيبنا أصلًا؟

ما العمل؟

واقعيًا، وبعد خمس سنوات ونصف، بات لدينا مستحيلان سياسيان راهنان، الأول هو صعود الإسلاميين نحو الخطاب الوطني الجامع، وتخليهم عن خطابهم الإسلامي التراثي الذي يُنفِّر العالم منهم ومنا، دون أن يجمعهم هم أنفسهم في كتلة صلبة واحدة وموحدة.

والمستحيل الإسلامي الراهن، ربما يحمل في طياته العميقة إمكانية معينة للخروج من عدميته السياسية وانغلاقه التاريخي والانفتاح نحو الوطنية الجامعة، لكن لا شيء يساعده في إخراج تلك الإمكانية، فهو من جهة يحتاج إلى وقت طويل يدفع ثمنه السوريون من دمائهم، وانغماس في السياسة لم يفسح له المجال قاتلهم، سابقًا واليوم، ولا تريده طلائعهم الدموية، أو تتعلمه نخبهم الانتهازية، ولا يقبله عالم متكاتف مع الديكتاتوريات وإسرائيل، ومتحالف ضد مشاركتهم، بل وجودهم السياسي ذاته أحيانًا، كما في حالات مصر والجزائر وفلسطين.. وسورية، من جهة أخرى.

والمستحيل الثاني، هو نزول الديكتاتورية الفاشية الحاكمة إلى الوطنية الجامعة نفسها، وتخليها عن حكمها الأقلّي الذي لا يمكن أن يبقى دون التمييز الطائفي والاجتماعي والسياسي، ولا أن يستمر دون العمالة وتقديم الخدمات للخارج، عدوًا كان أم صديقًا.

بين خياريّ الحكم الإسلامي أو الديكتاتوري يتفق العالم على تفضيل الثاني، أوباما قال ذلك حرفيًا قبل أن يسلّم تلك المهمّة القذرة في الحفاظ على الديكتاتورية في سورية لبوتين وخامنئي، فكل ما يريده، بحسب قوله، هو “حفنة ديكتاتوريين أذكياء في المنطقة”. السوريون من جهتهم، مثلهم مثل معظم الشعوب العربية، لا يفضلون الخيارين، لكنهم يسلّمون لأحدهما أو كليهما، دون قدرة، حتى اليوم، على الخروج من تلك الدائرة المقيتة التي تغذي نفسها بنفسها، حيث الطغيان يجذِّر الخطاب الإسلامي، ويمنحه قضية ليبقى جذريًا، والإسلاميون يجذرون الطغيان ويمنحونه تبريرًا للبطش بالجميع، برعاية دولية، تحت مسمى مكافحة الإرهاب.

إذا كان العالم ليس معنا؛ لأنه يفضل الوضوح الديكتاتوري المضبوط على الغموض الإسلامي غير المضبوط؛ ولا سيما بصبغته السنيّة. ونحن لسنا مع أنفسنا؛ لأننا غارقون في اختلافاتنا وصراعاتنا البينية حدّ اليأس، ونفتقر إلى أي هيكل تنظيمي عسكري أو سياسي مُجمَع عليه، فكيف يمكننا مواجهة نظام تحميه قوتان كبريان، دولية وإقليمية، وتتزاحم الدول العربية “الشقيقة” في مساعدته ضدنا مساعدة مباشرة وغير مباشرة؟

يتحول أصحاب الثورة وأهلها -تدريجيًا- إلى قوى متفرقة وضعيفة ومشتتة، داخل البلد وخارجها، ويصبحون خارج موازين القوى السائدة والصلبة والمتسيّدة، وفي ذلك خروج من الفعل والتأثير أسوأ من الوضع السابق للثورة، وخروج من السياسة ينسف كل الجهد والتضحيات الكبرى التي قدمها السوريون في سبيل إعادة السياسة إلى الناس، بعد أن احتلها واحتكرها نظام الإبادة الأبدي. وما يضاف إلى هذا كله، هو أن فكرة “الشعب السوري” التي كانت تحمل في ذاتها قوة كامنة وجاهزة لتغيير وتعديل موازين القوى الظاهرة والصلبة، باتت تتلاشى مع تلاشي أي اجماع وطني سوري، ووصول الفرقة والعداء بين المكونات السورية إلى حدود لم تصلها منذ سايكس/ بيكو ونشوء الكيان السوري ذاته.

ربما يقدم لنا المثال العراقي اليوم، فكرة واضحة عن تلاشي الشعب العراقي وخروجه من موازين القوى الكامنة، كشعب واحد، بعد أن أصبح العراق معلقًا بين الدولة الفاشلة واللا دولة المُقسَّمة، وبإسقاط هذا الوضع على الحال السوري المُرشح للبقاء والاستمرار على طريق النموذج العراقي، يخسر السوريون جوهر ثورتهم، والتي قامت -أساسًا- لكل السوريين، لا لطائفة أو لمذهب أو أيديولوجيا.

من دون العودة إلى الخطاب الوطني السوري الجامع، والتبني السياسي الصلب لهذا الخطاب، على الرغم من كل المآسي والظلم والقهر والضغط الذي يتعرض له السوريون؛ كي يتطيّفوا، ومن دون محاولة التأثير في الفصائل العسكرية؛ لجمعها وتوحيدها ضمن محددات هذا الخطاب ومستحقاته العملية في الواقع، فنحن نمضي تمامًا كما يُرسم لنا، وكما أرادنا النظام من اللحظة الأولى أن نكون؛ ليبقى هو ويتمدد، والأسوأ من هذا وذاك، أن الاستمرار في الحال العسكري والسياسي الذي نحن فيه اليوم، يجعل من كل القتال الحاصل عبثًا دون طائل، ومن كل التضحيات الكبرى بلا معنى، مثلما أنه يمضي في الطريق المعاكس لمصلحة السوريين، سواء أكانوا جماعات أم أفرادًا، طوائف أم أحزابًا، أكثريات أم أقليات.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق