من النادر أن يعثر المرء على كتابٍ يشفي غليله. إذا تساءلنا: بأي معنى؟ فالجواب، بأن يجمع بين دفّتيه، الرؤية، والتحليل العميق، وأجوبة مقنعة، ذات صدقية عالية، حول كثير من الأسئلة الإشكالية التي تدور في ذهن القارئ، ويحار في إيجاد الأجوبة الشافية لها؛ ربما لنقصٍ في المعلومات، وربما العكس، أي: بسبب السيل الهائل من المعلومات المضلّلة، التي تنشرها ماكينة الإعلام الضخمة، التي تهدف أساسًا إلى التشويش، والخداع، وتزوير الحقائق، وتغليفها برداء «الرصانة والحيادية، والمهنية». وإذا كان اليهود الصهاينة، يملكون ويسيطرون على معظم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة -في معظم عواصم العالم- فلنا أن نتخيل حجم الكذب والتشويه الذي يمارسونه على شعوب العالم قاطبةً، من واشنطن حتى موسكو.
في هذا المناخ المسموم، من المثير للدهشة والإعجاب أن يعثر المرء على كتاب، يكرّس صاحبه كل طاقته لدحض وتفنيد الرواية الصهيونية الكاذبة، وفي الوقت ذاته يفضح دور الإعلام الصهيوني والغربي في تكريس هذه الرواية، ولا سيما أنه يأتي على لسان يهودي «كاره للصهيونية» -كما يصفونه- هو «إسرائيل شامير» صاحب كتاب «أزهار الجليل»، الذي صدرت الطبعة الأولى من ترجمته العربية، عن دار «كنعان» بدمشق عام 2007.
ثغرة في جدار
في هذا السياق، من المهم الاطلاع على هذا الكتاب؛ لأنه كنز معرفي، يفكّك بنية الكيان الصهيوني، وعنصريته، وأكاذيبه، بأدوات الشخص العارف بكل آليات وأحابيل هذا الكيان؛ فهو من أهل البيت، وهو بالتالي؛ شاهد ذو ضمير حي، وصوت شجاع؛ قرَّر أن يقول الحقيقة؛ فهذا الكيان العنصري نشأ على حساب دماء الفلسطينيين، وأرضهم، وحقوقهم المغتصبة، وما زال يملك تلك الآليات نفسها التي نشأ على أساسها، بما فيها من أدوات بطش ومال وتحالفات تمكّنه من الاستمرار في تنفيذ مخطّطه الجهنمي.
المفارقة المهمّة في هذا الكتاب، أنه يمنح الأمل، ويفتح ثغرة في الجدار الأصم لهذا الكيان، وينبئ أنه لن يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف، مهما طال الزمن؛ لأن فلسطين كما يقول: «هي ليست جسدًا ميتًا، بل هي بلدٌ حيّ، والفلسطينيون روحها»، لذلك؛ يؤمن شامير إيمانًا عميقًا وصادقًا بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرض آبائهم وأجدادهم، ويتساءل: «كيف يمكن لأرضٍ أن تحيا دون روحها!؟«
حوض ماميلا
يستند الكاتب إلى معرفة عميقة بالتاريخ والآداب والجغرافية والديانات، وبالتالي؛ فهو يدحض -بالحجة والبرهان والوقائع- الأكاذيب التي زوّرت التاريخ، لكي تبرّر الممارسات الوحشية، لبعض الطوائف اليهودية قديمًا (راجع فصل حوض ماميلا)؛ إذ تذكر بعض الأبحاث الأثرية الموثقة، أنه ذُبح في عام 614م وقتل حوالي 90.000 مسيحي فلسطيني على يد الجالية اليهودية المقيمة في القدس آنذاك، بعد غزو الفرس للمدينة، وتعاون اليهود معهم على غزوها، ودُفنوا في هذا الموقع الذي يسمّى حوض ماميلا. ومنذ سنوات -في أثناء أعمال بناء- عُثر على كهف يحتوي على مئات الجماجم والعظام؛ على بابه صورة صليب مكتوب عليه: «الله وحده يعلم أسماءهم». وفد عُتم على هذا الاكتشاف، ومُنع إعادة نشر أي دراسات أثرية حوله، وبنوا مرآبًا للسيارات في الموقع.
بطبيعة الحال، لا يقتصر الكاتب على فضح وحشية الماضي، بل يشير -في أكثر من موقع- إلى المذابح المعاصرة، وفتاوى رجال الدين التي تروّج لها صحف بارزة، مثل صحيفة هآرتس، وواشنطن بوست: «يفرض واجبنا الديني قتل كل العرب، بضمنهم النساء والأطفال ومواشيهم؛ حتى آخر قطة يملكونها»
ترنيمة لفارس
يفيض الكتاب بالمعلومات الموثقة، وحوادث التاريخ -مع إسقاطات مباشرة على حوادث راهنة- تتيح المقارنة الذكية اللمّاحة بين الماضي والحاضر، وتدحض الأوهام الأيديولوجية والدينية، والسياسية الملفقة للآلة الإعلامية الصهيونية، وداعميها في الغرب الأميركي والأوروبي. على سبيل المثال، في مقالة سمّاها «ترنيمة لفارس» يقدّم مقاربة تاريخية ودينية مذهلة للفتى الفلسطيني، ابن الثالثة عشرة من عمره «فارس عودة»، إذ يشبّهه بالنبي داوود، حينما شوهد متحدّيًا جوليات اليهودي في ضواحي غزة، في صورة خالدة التقطها مصوّر «أسوشيتد برس» لوران روبور. «فارس الشجاع رمى حجارته على الوحش المدرّع برشاقة القديس جورج. القديس المحبوب في فلسطين واجه العدو برباطة جأش أي فتى قروي يطرد كلبًا شرسًا. التُقطت الصورة يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر، بعدها ببضعة أيام، في 8 تشرين الثاني/ نوفمير، قتله قناص يهودي بدمٍ بارد»
مطر أخضر
لا تقتصر ترنيمة «أزهار الجليل» على فارس وأمثاله من الفتيان الفلسطينيين الشجعان، بل تمجّد شجرة الزيتون، وارتباط الفلسطيني بهذه الشجرة المقدسة «روان ابنة حافظ، الحصيف القوي، ذات السنوات السبع والنصف، تتسلّق إلى قمة الشجرة، والزيتون الذي تقطفه فيقع بين أيدينا، وعلى أكتافنا ورؤوسنا كأنه مطر أخضر. قبل الذهاب إلى شجرة أخرى، نرفع أطراف الملاءات، ونملأ الكيس بنهر كثيف من الزيتون. مهرة رمادية ترعى قريبًا منا، تجمع قواها لرحلة العودة: سوف تحمل الأكياس إلى القرية في أعلى الوادي»
تنمُّ الصورة الجميلة السابقة التي التقطها شامير عن قلبٍ محبّ وعادل، يقدّر ويحترم ارتباط الفلسطيني بأرضه، لذلك؛ يستنتج دون مواربة «لا يمكن قهر القرويين الفلسطينيين ما دام ثمة زيتون، ولهذا السبب؛ حوّل أعداؤهم غضبهم نحو الأشجار، يقطعونها كلما استطاعوا» توضح هذه المقاربة، الحقد المنهجي للمستوطنين الصهاينة، الذين يقطعون ويحرقون -يوميًا- أشجار الزيتون التي يرعاها الفلاح الفلسطيني بدموع عينيه، فالمسألة ليست مجرد عبث، بل أبعد من ذلك بكثير.
يشارك شامير الفلسطينيين عشقهم لأرض فلسطين، ويتجلّى عشقه في وصفه النبيل لجمال هذه الأرض، الذي يختلف جذريًا عن «العشق المنحرف» للصهاينة، لصوص هذه الأرض وغاصبيها، يقول: «يرتبط شارون وشعبه ارتباطًا منحرفًا من عشق الأرض. منحرف لأنهم يتخيلون أن من الممكن حب فلسطين من دون فلسطينيين»
القدس للفلسطينيين
كتب شامير حول «القدس» ردًّا مفحمًا على مقالة مطوّلة، كتبها إيلي ويزل، وهو من ناشطي الهولوكوست اليهودي، والفائز بجائزة نوبل للسلام في كانون الثاني 2001. وبما أن ويزل «يرسم صورة جميلة للشعب اليهودي، الذي يتوق للقدس ويحبها ويصلي من أجلها طوال قرون، ويعز اسمها من جيلٍ لآخر»، فإن شامير يعلّمه وأمثاله درسًا بليغًا في معنى الحب، فمن يحب لا يمكن له، ولا يحق له أن يغتصب محبوبته. ويرد على تساؤل ويزل «لماذا يريد الفلسطينيون القدس؟» بالقول: «لأنها ملك لهم، لأنهم يعيشون فيها وهي مدينتهم الأم»
يزعم إيلي ويزل أن الصراع من أجل هذه المدينة قد اقتصر على الاشتباكات بين المسلمين واليهود وحسب. «إنها قضية اشتهاء ملكية، مقابل من يملك سند ملكيتها» القدس مقدسة لدى مليارات المؤمنين: من كاثوليك، بروتستانت، مسيحيين شرقيين، مسلمين سنة وشيعة، إلى آلاف اليهود الغربيين والشرقيين. مع ذلك، تظل هذه المدينة، مثل كل المدن، لا تختلف عن أي مكان آخر في العالم، هي ملك سكانها، هذا ما يؤكد عليه شامير «هي ملك سكانها»، ويضيف: «إن بقيت تحت السيطرة الصهيونية لعشرين عامًا آخر، فسوف تتحوّل إلى نيويورك أخرى، وتفقد إلى الأبد سحرها الخاص»
تقوم السياسة الإسرائيلية بالضغط على المقدسيين بكل الوسائل لتهجيرهم من مدينتهم، وفي الوقت نفسه تهويد المدينة وتغيير معالمها، بينما «ما تحتاجه القدس هو أن تعود لملكية سكانها (…) المواقع المقدسة تحكمها قواعد دولية سائدة منذ مئة وخمسين عامًا في (إبقاء كل شيء على حاله)، ويجب عدم العبث بها (…) المحاولة المقبلة ستتسبب بحرب نووية»
السلام المزيف
وفي سياق كشفه للخداع المزمن الذي هو صفة بارزة للعقل السياسي الصهيوني، يفضح شامير دون مواربة كذبة ما يسمّيه «حكاية دولتين». يقول: «كانت فكرة باهرة، تليق بالعبقرية اليهودية: استمرار التفاوض إلى الأبد، في الوقت نفسه الزعم بالعمل من أجل فكرة الدولتين»
من جهة أخرى، يشير إلى كتاب روبرت كابلان، الذي فضح خطة السلام الحقيقية لإسرائيل: «لعدة عقود أسمع أنها ستكون إسرائيل الكبرى، أو دولة فلسطينية، اتضح أنها ستكون كليهما: دويلة فلسطينية، يُسيطر على سمائها، وتقع الطرق الرئيسة فيها داخل إسرائيل، التي ستظل تستقطب العمال عبر حدودها؛ ما يجعلها القوة التي تحقق الاستقرار في سوريا الكبرى»
كلام كابلان السابق، بحسب شامير هو جوهر السلام الذي يغرّد به حمائم إسرائيل، وهو يوضح «أن إسرائيل وحلفاؤها الصهاينة الأميركان ينوون إبقاء الفلسطينيين محاصرين -إلى الأبد- في محميات، لينافسوا أشقاءهم من الأردن وسورية؛ للحصول على فرص العمل من سادتهم اليهود»
الحل من وجهة نظر شامير «فلسطين التاريخية موحدة»، «لكن التمييز العنصري لم يثقضى عليه بعد. لدينا بالفعل دولة واحدة، لكن ليست لدينا ديمقراطية (…) ما نحتاج إليه ليس أكثر من حق الجميع بالانتخاب، ومبدأ صوت واحد للشخص الواحد، آن الأوان أن نحقق هذا الحق للفلسطينيين من أهل هذه الأرض»
لا يكلّ شامير، ولا يمل من فضح أكاذيب الإعلام الصهيوني والأميركي والغربي الذي يقلب الحقائق، ويثير سحب الغبار التي تحجب الرؤية، حيث يفنّد عقيدة «الهولوكوست» و«عقدة الذنب» التي سمحت لليهود بالحصول على مليارات الدولارات، وفي الوقت ذاته، رخصة مفتوحة لعقيدة الهولوكوست، والسهولة التي تمتص بها المليارات، هي دليل دامغ على النفوذ الحقيقي وراء هذه الصناعة. هذه القوة غامضةً، غير مرئية، تفوق الوصف، لكنها حقيقية. إنها ليست قوة مشتقة من الهولوكوست، بل الأصح، عقيدة الهولوكوست هي عرض للقوة العضلية، يقوم به من يسيطر على هذه القوة الحقيقية»
تُرى ألا تعمل إسرائيل في ظل الوضع الكارثي، وغير المستقر في المنطقة حثيثًا على تنفيذ مخططاتها؟! في الواقع نعم، مستفيدة استفادة مباشرة، أو غير مباشرة من كل التناقضات.
يذكرني الدور الروسي والإيراني الراهن، بدور الفرس القديم في مذابح حوض ماميلا!!