تحقيقات وتقارير سياسية

المنطقة الآمنة في جرابلس: الكحل ولا العمى

لم يكن الحديث عن المنطقة العازلة، أو المنطقة الآمنة، التي تحمي من خلالها المدنيين السوريين من آلة الحرب والقصف الجوي، لم يكن الحديث عنها قبل الانقلاب التركي مقبولًا في الأوساط الدولية والعالمية، لا من روسيا الرافضة لأي وجود آخر غيرها في سورية، ودفعت بكل ثقلها السياسي والعسكري لاحقًا لهذا الغرض، ولا الولايات المتحدة الأميركية التي تعمل على سياسة اللا منتصر في المنطقة، ومنعت ترجيح كفت المعارضة السورية من خلال الضغط على الدعم التركي وتحديده.

المنطقة العازلة هي منطقة دولية ترعاها الأمم المتحدة، يُمنع فيها القتال، وتشترط قرارًا مُلزمًا من مجلس الأمن يُمنع به الطيران والقصف الجوي؛ لحماية المدنيين ضمن منطقة جغرافية محددة، فمنذ عام 2013، والمنطقة العازلة مطروحة ضمن أوراق المعارضة السورية، وبطلب تركي متكرر، مرة فوق التراب السوري كاملًا، وأخرى مقسمة إلى منطقتين: واحدة في الشمال السوري، والأخرى في جنوبيها، وفي كل مرة تجد من يفندها ويرفض قيامها. وما الحديث اليوم عن جرابلس ومحيطها الحيوي، كمنطقة عازلة أو آمنة، سوى حديث خارج شرعية الأمم المتحدة، وفي سياق سياسة الأمر الواقع، ورضوخ جميع الأطراف المتنازعة داخل سورية لمنطقها.

سياسية الأمر الواقع أتت منذ الدخول الروسي الفج والدموي العسكري في سورية، تلك السياسة التي فرضت على كل الأطراف تجنب تداعيات مواجهة مباشرة مع الروس لما لها من تبعات كارثية عالمية قد تنشب على أساسها حرب عالمية كبرى. وليس بعيد عن الذاكرة الموقع التركي الضعيف الذي آلت إليه بعد إسقاط الطائرة الروسية قبيل نهاية عام 2015، تركيا التي بدأت تتلمس انسحاب اليد الأميركية وحلف الناتو من مساندتها ودعمها؛ لدرجة باتت في شبه يقين من تخلي أميركا والناتو عنها، بعد الانقلاب العسكري التركي ودلالات مساندة الأميركان له من جانب، ودعم الأميركان للأكراد في قيام دويلة، أو حكم ذاتي في الشمال السوري. كل هذه الأسباب مجتمعة، وغيرها كثير، دفعت تركيا إلى إعادة التقارب مع الروس، وهم، أي الروس، بحاجة إلى أي مساندة إقليمية، تضعف طرف حلف الناتو، وتقوي من وجودها القلق في سورية وحوض البحر المتوسط؛ ما يعني تلاقي مصالح تركيا وروسيا في منطقة معينة -تمامًا- أدى بتركيا إلى تغيير في تموضعها الجيو – سياسي -نسبيًا- بعيدًا عن الناتو، ولو قليلًا.

عمليات درع الفرات المعلنة في جرابلس ومحيطها الحيوي تتمدد في اتجاهين، باتجاه الغرب؛ حيث المواجهة الأصعب في الباب مع داعش، وعلى أطراف أماكن التماس المباشر مع خطوط القصف الروسي في حلب، وجنوبًا باتجاه منبج؛ حيث الوجود الكردي المدعوم أميركيًا، وفي الحالتين كلتيهما من ينفذ العمليات العسكرية هم الأتراك، بدعم لقوى الجيش الحر فيها؛ بغية إيجاد منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، ولليوم لم تتدخل لا روسيا ولا أميركا في عملياتها، ما لم تصل منبج أو الباب. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل ستكون جرابلس منطقة آمنة أو عازلة؟ وإلى متى يمكنها أن تصمد كذلك؟

في المبدأ العام جرابلس ليست منطقة عازلة بمفهوم الأمم المتحدة، وذلك من حيث رعايتها، وفقًا للقانون الدولي في هذا السياق، ولن تكون آمنة كونها مفروضة بسياسة الأمر الواقع الآتية ضمن تفاهمات عدم الاحتكاك، وتوليد شرارة حرب عالمية؛ ما يعني أنها ستبقى منطقة استقرار أمني هش، قابل للكسر في حال تغيير موازين القوة، والتفاهمات الدولية بهذا الشأن، ما لم تتبناها الأمم المتحدة بقانونها الدولي الملزم لكل الأطراف، وفي جانب آخر ومهم، ثمة خلاف بين الأتراك والأوربيين يمكن أن تحل عقده في منع الأتراك من تدفق اللاجئين السوريين إليها؛ ما يلزم تركيا برعايتهم. فتركيا التي فتحت أبوابها أمام السوريين، وقدمت لهم الدعم المادي واللوجستي طوال سني الثورة، أقفلت حدودها في الفترة الأخيرة، بعد الضغط الأوروبي المتواصل، وبعد عدة عمليات إرهابية استهدفت مدنها، كان أخرها حادثة مطار أتاتورك الدولي.

وحدهم السوريون خارج المعادلة لليوم، فلا هم حصلوا على مرادهم من حماية المدنيين، ولا أنجزت التفاهمات -تلك- مفاتيح إيقاف نزيفهم المستمر، فالتفاهم الروسي – التركي حول جرابلس فتح الباب على مصراعيه لحرب إبادة في حلب، تنفذها روسيا، ودفع بالأميركيين إلى تغيير قواعد لعبهم بتقارب من نوع مختلف عن كل من تركيا والسعودية، وربما تكون مصر هي الدولة المرجحة لهذا، وبالمحصلة العامة الوجود التركي في الشمال السوري لا يمكنه أن يكون مكافئًا موضوعيًا للتمدد الإيراني وتغلغله في سورية، من حلب إلى الساحل فدمشق، بقدر ماله من معادل معنوي فحسب، كمن يذكرهم للسوريين بمجرد وجودهم -وحسب- في ساحة نزاع تتبدل أوراقه يوميًا؛ ما يقوض استقرار سياستهم وتوجهها بالاتكاء على أرض صلبة توصلهم إلى مشروعهم الوطني الواحد في كل سورية.

جرابلس كمنطقة عازلة سياسة الأمر الواقع ستمهد الطريق لسياسات أخرى في مناطق أخرى سورية، منها الرميلان والحسكة في الشرق السوري، ومنها الساحل في الغرب، ولربما دمشق والمنطقة الجنوبية؛ لتنحصر ساحة المعركة وتتحدد في الوسط والوسط الشمالي لسورية؛ بحيث لا يُسمح لمنتصر فيها بقدر وصول جميع الأطراف السورية إلى قناعة مفادها الكحل ولا العمى، بمعنى الاكتفاء الموقت، ولربما الدائم، بتقاسم مناطق النفوذ السورية برعاية إقليمية متعددة، تؤول في مآلها الأخير إلى حكومة هزيلة تابعة لسلة من الأجندات الدولية، لا هي مستقلة بذاتها، ولا هي قادرة على تنفيذ قرار قادر على تعطيله أي طرف آخر. هذا ما يجعل الحديث اليوم عن منطقة آمنة للسورين هو مصير السوريين أنفسهم وإرادتهم الفاعلة في كيفية إيجاد آليات ضغط على المجتمع الدولي بقواه الفاعلة، ويبدو هذا مستحيلًا إلى اليوم، إذا سلم السوريين بأن الأمم المتحدة أو المجتمع الدولي يمكنه أن يفعل هذا من تلقاء نفسه أخلاقيًا. والعمل الوحيد الممكن في هذا السياق، هوالسياسة نفسها التي يتبعها الكل، وهي سياسة الأمر الواقع، وانتزاع منطقة آمنة فعليًا، ويبدو أنه الأخطر والأكثر مجازفة حتى اليوم.

بين أمرين أحلاهما مر، يعاند السوريون واقع تردي المعايير العالمية، ونفوق سياساتها وفقًا للقانون الدولي، ولن تكون جرابلس محطة نهائية في هذا السياق، بقدر ما ستكون محطة من محطات الحلول الأكثر قسوة في مسيرة السوريين العامة، ومع هذا، هي حل أقل كلفة على العالم من حرب إقليمية مدمرة، قد تتمدد إلى عالمية كبرى، فلا بلح الشام ولا عنب اليمن مطروح اليوم في الخارطة الدولية للسوريين والمنطقة برمتها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق