هموم ثقافية

كتابة رواية الثورة في زمن الثورة

كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1992) في عامها الثاني، حين أجاب الروائي الراحل غالب هلسا، عن تساؤلات من أحد المحاورين، عن إمكانية أن يكتب رواية عن ذلك الحدث الكبير – الانتفاضة، فطرح مفهومه للعلاقة بين فن الرواية والأحداث الكبرى، كالحروب والثورات، واتسع الحوار -يومئذ- في الندوة الفكرية التي عقدت لمواكبة الانتفاضة واستشراف آفاقها، بوصفها الحدث الأهم في تاريخ النضال الفلسطيني المعاصر. كان رأي المرحوم غالب أن الرواية ليست لحظة تعبير عاطفية وانفعالية، كالشعر، وأشار إلى احتمال أن تكون القصة القصيرة التي تكتب خلال احتدام الحدث لها فرصة أفضل، أما الرواية فلا ينضج عالمها بتلك السرعة، إذا توخى كاتبها بناءً فنيًا متطورًا، يكون هو القيمة الأبرز في العمل الروائي، فموضوع الرواية، وإن كان جديدًا، وفكرتها عميقة وشجاعة، لا يكفيان لتألقها الفني، ذلك أنها تنتمي إلى جنس الإبداع الذي تنتجه المخيلة باللغة.

بعد عشر سنوات تقريبًا، أكملت سحر خليفة روايتيها ” باب الساحة” و”الميراث”. الأولى كانت الأقرب لزمن الحدث الواقعي، والثانية أبعد، أما عالم الروايتين فهو واحد، به قدمت الكاتبة نقدها -دون مهاودة- للواقع الاجتماعي والسياسي الفلسطيني، بسرد فني متعدد المستويات والأصوات، فكانت القيمة الأدبية لعمليها المذكورين، مستقلة عن القيمة التاريخية والسياسية لانتفاضة الشعب الفلسطيني (1987-1992).

في زمن الثورة السورية، خلال سنواتها الخمس، يُقدِر بعض المتابعين للأعمال الفنية والأدبية، صدور خمسين رواية تقريبًا، وهو عدد كبير؛ لأن أجناس وأنواع سردية وفنية أخرى ولدت في واقع الصراع المحتدم. وهنا يمكن إقامة زاوية للشبه بين الحدث “الثورة الشعبية العفوية”، والكم الكبير للروايات الصادرة بأقلام كتاب سوريين؛ ففي الملمح الرئيس للثورة أنها عبَرت عن تعطش الناس للحرية والخلاص من الاستبداد؛ فشاركت أكثرية الشعب فيها، دون تخطيط مسبق أو ترتيب تقتضيه عملية التغيير. وكما غابت عن ميادين الثورة نخب، كان المأمول أن تكون في الخط الأمامي للاحتجاجات والتحديات، أصبح الجيل الجديد، سنًا وخبرة، يحتل المشهد العام، وكانت صعوبة المخاض وتعقيداته، ودخول تيارات لا تنتمي إلى نشيد الحرية على خط الثورة، لتترك أسوأ البصمات على تداعيات الصراع. غاب عن المنتج الروائي الذي موضوعه الثورة، العدد الأكبر من جيل “الرواد”، وظهرت أسماء شابة جديدة، حاولت تقديم روايات تنتمي إلى الثورة، شكلًا ومضمونًا، وتستمد من انحيازها الفكري للثورة وأهدافها طاقة للكتابة، وبعضهم لم تسعفه خبرته في إنضاج شروط الكتابة الروائية؛ حتى تولد ناضجة ومبنية، بما يجعل أثرها غير مرتبط زمنيًا بالحدث؛ فلذلك محاذير تجعل هذا اللون من الروايات يفقد شغف المتلقي حين يمضي الزمن، تاركًا الحدث وراءه ليصبح جزءًا من التاريخ.

ليست الفكرة -هنا- مصادرة حق جيل الرواية الجديد في الإقدام على الكتابة، إنما أن تكون الكتابة جديدة أيضًا، وقادرة على إعادة إنتاج المخيلة؛ لنطالع سردًا فنيًا يصل إلى المتلقي فيدهشه، ويضع بين يديه وأمام ناظريه عالمًا ليس هو العالم الواقعي الحقيقي الذي عاشه -يومًا بيوم- خلال مجريات الثورة وتعقيدات مساراتها. وبهذا الخصوص تمكن الإشارة إلى أن الروايات العالمية -وبعض منها عربي- ذات الصلة الموضوعية بالحروب والثورات، التي لاقت الاهتمام الكبير، وبقيت خالدة على تعاقب المراحل ولمختلف الأجيال، تلك التي كتبها الروائيون بمسافة زمنية بعيدة عن الأحداث الكبرى. ولنا في المثل الروسي “الحرب والسلام” لتولستوي، أبرز علامة في هذا المجال، فبعد أكثر من نصف قرن، على فشل الغزو النابوليوني لروسيا، كتب تولستوي رائعته التي لا تزال تحمل قيمتها الفكرية والفنية والتاريخية. والأمر ذاته في روايات الحربين العالميتين. كتب أرنست همنغواي”لمن تقرع الأجراس”، عن الحرب الأولى بفارق خمسة عشر عامًا، وعن الحرب الأميركية، جاءت رواية “ذهب مع الريح” لمرغريت ميتشيل، بعد قرن تقريبًا، وكتب يوري بونداريف عن معركة ستالين غراد في الحرب الثانية سنة 1969، وفي العام 2013 كتب خالد حسيني عن سقوط الملكية في أفغانستان في السبعينيات، رواية “عدَاء الطائرة الورقية” وعن الحرب البوسنية (1992-1995) كتب سلافين أفيديتش روايته” مخاوفي السبعة” في سنة 2009.

في الروايات العربية، عن الحرب والثورات، كالحرب الأهلية اللبنانية، والثورة الجزائرية، جاءت الأعمال الأهم بعد انتصار الثورة في الجزائر (اللاز) للطاهر وطار 1974، وفي لبنان، كتب الياس خوري روايته “الجبل الصغير” في العام 2003 بعد انتهاء الحرب الأهلية. والشيء ذاته عند صنع الله إبراهيم في رواية “بيروت يا بيروت” 1984، وهدى بركات في رواية “حجر الضحك” 1998.

أما الروايات التي كتبت عن الحرب في زمن الحرب فقليلة، ويمكن أن تكون على سوية فنية عالية، ولكنها قليلة، نذكر منها رواية ” الحنين إلى كاتالونيا” لجورج أوريل، حيث نشرت في العام 1938، بينما الحرب الأهلية الإسبانية انتهت تمامًا في العام 1939. واستدرك النقاد نشوء ملاحظات فنية على رواية أوريل، فأشاروا إلى أن مهنته كصحافي، أدخلت تقنية التقرير -بأكثر من مكان- في صفحات العمل.

ما أشرت إليه لا أقصد منه مصادرة حق كل كاتب الإقدام على ” مغامرة” الكتابة، ولا أقلل من قيمة بعض الأعمال التي نشرت، والثورة مستمرة والصراع يحتدم ويزداد تعقيدًا. أما وأن للرواية، -كفنّ أدبي يحتل الصدارة في أجناس الأدب- وظيفة نحو جنسها الفني، أولًا وقبل كل شيء، لا يعوَض عنها في حال غيابها عن بنية السرد، أي حضور آخر كطبيعة الحدث الروائي، ونمط الشخصيات، ومواقفها الإيجابية. وكما هو معروف، فإن الرواية -خلال الثورة- لن تكون أكثر تأثيرًا من الثورة نفسها التي يعيشها الشعب ويصنع أحداثها، أو على الأقل يعلم بها وبقصصها المأسوية والبطولية، وما يحدث في غضونها من فظاعات وآلام؛ فثمة أشكال أخرى من المدونات والنصوص الوصفية والإخبارية، تواكب الحدث لحظة بلحظة، وتضع نتاجها، عبر وسائل الاتصال المختلفة، أمام أنظار وسمع الناس في أوسع قطاعاتهم.

في الختام عليَ أن أستدرك أمرًا، ربما معه تكون الرواية السورية في زمن الحدث- الثورة- وخلاله مشرعة على احتمالات نوعية جديدة، تتخطى عقبات وسلبيات المنتج الروائي في تجارب بلدان أخرى؛ فكما هي الثورة السورية متميزة، بل وشبه فريدة في تاريخ الثورات، بتداعياتها وتعقيداتها، وقدرات السوريين البسطاء على مواجهة استحقاقات لم تكن في الحسبان، كذلك الرواية التي ينتجها كتاب ومبدعون سوريون، ربما سنجد نصوصًا روائية لا تنتظر انتهاء الحدث، وتنتج بالضرورة بنى فنية جديدة للرواية السورية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق