انضم الصحافي السوري، عمار بكور، الذي سقط مضرجًا بدمائه في السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، في عقب تعرض بلدة الدانا في ريف إدلب لقصف جوي، إلى قائمة شهداء الصورة والكلمة، ضحايا مهنة أضحت من المهن المميتة، في بلد تحوّل خلال العقد الأخير من تاريخه السياسي إلى أكثر الأماكن خطورة في العالم، على حياة الصحافيين.
قبل مصرع عمار، لقي ما لا يقل عن 376 إعلاميًا، محليًا وأجنبيًا، حتفهم في أماكن متفرقة من البلاد، بحسب المركز السوري للحريات الصحافية، نتيجة استهدافهم بالطائرات، أو القنابل المفخخة، أو بطريقة الاغتيال الفردي، أو داخل سجون مظلمة. غير أن بعضهم سقط على خطوط التماس المشتعلة، أو بالقرب منها. بعد نقل وقائع مروعة لهجمات كان يشنها النظام، ضد المدنيين في المناطق السكنية الآمنة، طوال السنوات الست التي مضت.
ليس من الصعب معرفة خلفية هذا الاستهداف المنظم، لأشخاص يحملون رسالة تتميز بالجرأة والشجاعة. فمنذ عام 2011 منعت الحكومة السورية الصحافيين من تغطية الهجمات التي تشنها قوات الأمن ضد الحاضنة الاجتماعية لنشطاء الثورة، بهدف الحدّ من تحركاتهم، والتضييق عليهم. ولم يمنع تعتيمها الإعلامي وسيطرتها على وسائل الإعلام المحلية، وطردها لمراسلي الصحف العربية، ومنع دخول صحافيين أجانب، من اجتياز رجال الإعلام حدود البلاد سرًا عبر تركيا ولبنان والأردن، لتغطية مجريات حراك ثوري سلمي تستخدم القوات الحكومية في مواجهته الرصاص المميت. بالتعاون مع فريق كبير من المواطنين الشباب، وجدوا في كاميرات أجهزة الخلوي وسيلة ملائمة لتغطية وتوثيق انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب بحق مدنيين داخل مناطق لم يتمكن الإعلاميون الأجانب من الوصول إليها.
يدعم “أوليفر هولمز” مراسل وكالة رويترز في لبنان، مشهد الاستهداف بتجربة شخصية يروي جانبًا منها على هذا النحو: “هل تُطلِق النار علينا؟ سألتهم، بينما كانت المروحية الهجومية التابعة للجيش السوري، تطلق من ذخيرتها ذات الأثر الخطي الأحمر الملتهب، طلقات ارتطمت بالأرض أمام قدمي مباشرة، مثيرة في الهواء غبارًا يغطي شوارع حلب. كان يتوجب عليّ أن أجيب عن السؤال بنفسي فيما كنت أختبئ خلف محرك سيارة قديم هو أقرب شيء استطعت العثور عليه”، ويضيف “قمت بتغطية الانتفاضة السورية منذ بدايتها من خارج البلاد أغلب الوقت، نظرًا للقيود التي تفرضها الحكومة على تحرك الإعلام، وللأخطار الماثلة على الأرض، وقد أعددت تقارير عن استهداف الصحافيين السوريين والأجانب بالقتل. وقد رأيت في حلب جثة صبي ممدة في الشارع، أرداه قناص من الحكومة بطلقة في الرأس، بينما كان يتجه إلى البيت عائدًا من السوق. كما أنني تحدثت مع صحافيين سوريين تعرضوا للضرب؛ حتى شارفوا على الموت من قوات الأمن التابعة للرئيس بشار الأسد”.
وبخلاف تونس واليمن وليبيا والعراق، التي لم تشهد شوارعها مقتل أي صحافي خلال عام 2012، سقط اثنان في البحرين ومصر، وسجلت سورية في العام ذاته أعلى رقم في سقوط صحافيين برصاص قوات حكومية على مستوى بلدان الربيع العربي، حيث وصل عددهم إلى 28 صحفيًا. ما دفع لجنة حماية الصحافيين الدولية لتقرع جرس إنذار قوي، وتصنّف سورية على أنها أخطر بلد في العالم بالنسبة للصحافة والصحافيين.
“هذا الرقم (على سبيل المقارنة) لم يقابله في العام نفسه غير سقوط اثنين من الصحافيين في إسرائيل، والمناطق الفلسطينية المحتلة، في أثناء تغطيتهما انتفاضة الشارع الفلسطيني”.
خلال الأعوام من 2012، إلى 2014، تجاوزت حالات قتل الصحافيين في سورية جميع الحالات الأخرى في العالم، وتراجع العدد في عام 2015 ، ثم ما لبثت سورية أن احتلت في العام 2016 المرتبة الأولى عالميًا (تصنيف منظمة مراسلون بلا حدود) كأخطر بلد على الصحافيين. تلاها العراق، ثم اليمن فأفغانستان وليبيا.
في أيلول/ سبتمبر الماضي وحده، وثق المركز السوري للحريات الصحافية في رابطة الصحافيين السوريين (المعني برصد وتوثيق الانتهاكات بحق الصحافيين والمواطنين الصحافيين والمراكز الإعلامية) مقتل 9 إعلاميين محليين، أحدهم تحت التعذيب في سجون المخابرات السورية، فيما أصيب الآخرون بشظايا صواريخ وبراميل متفجرة، ألقتها طائرات الأسد على حلب وريفها.
(وتعرِّف لجنة حماية الصحافيين جريمة القتل بأنها القتل المتعمد ضد صحافي معين على خلفية عمله في الصحافة).
على هذه الخلفية، أصدرت منظمة (مراسلون بلا حدود) في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، قائمة مظلمة، قالت إنها تضم نبذة عن سيرة 35 من رؤساء الدول والسياسيين وزعماء الدين والميليشيات، ممن أسمتهم صيادي حرية الصحافة، تألقوا أكثر من غيرهم في استهداف الصحافيين بين عامي 2015 و2016.
في ترتيب القائمة، تربع الأسد كما يقول “كريستوف ديلوار” رئيس المنظمة، كأحد الصيادين المفترسين، الذين يدوسون بأقدامهم على حرية الصحافة، ويرتكبون أبشع الجرائم ضد الصحافيين دون أي حرج. فمنذ أن ورث سدة الرئاسة السورية (تقول المنظمة) “برهن بشار الأسد بشكل لا غبار عليه أنه يستحق لقب عدو وصياد حرية الإعلام. ومنذ اندلاع الثورة والحرب التي تُمزق البلاد، كانت سلطات نظامه تفرض سيطرة مطلقة على المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام الرسمية، كما كان يُحَظّر على الصحافيين الأجانب بانتظام، دخول الأراضي التابعة لسيادة الدولة، بينما كانت شرطة الإنترنت تطارد -بلا هوادة- كل من تعد نشاطه على الشبكة متعارضة مع مصالح النظام. بيد أن الوضع -كما تقول المنظمة- تفاقم تفاقمًا رهيبًا بعد انتفاضة آذار 2011، فمنذ ذلك التاريخ، تعرض مئات الصحافيين للاعتداء والاعتقال والاحتجاز التعسفي والتعذيب؛ ففي تموز 2016، رُفعت دعوى قضائية في الولايات المتحدة ضد نظام الأسد، حيث اتُهم الجيش التابع له بتعمد استهداف مبنى كانت المراسلة الأميركية ماري كولفين تنقل منه مباشرة وعبر “سي. إن. إن” عمليات قصف مدنيين في حمص، وذلك بتدبير متعمد من حكومة دمشق. صحيح أنه لا يمكن عزو كل الانتهاكات ضد الصحافيين في سورية إلى بشار الأسد (والكلام للمصدر) لكنه يُعد من أبرز المسؤولين عنها.
على غرار الصحافيين، أصبح المدونون العلمانيون والمفكرون الأحرار (تقول المنظمة) “من ضمن دائرة أهدافه المفضلة، في وقت اتسم فيه الخطاب الرسمي للدولة بالوقاحة والمكيافيلية حين عدّ الصحافية ماري كولفين (على سبيل المثال) تعمل مع إرهابيين، وبما أنها دخلت بطريقة غير قانونية؛ فإنها مسؤولة عن كل ما حدث لها.
تمرس الأسد أكثر من غيره، بين عامي 2011 و2016، في اصطياد الصحافيين أو افتراسهم، بحسب توصيف “كريستوف ديلوار”، جريمة تبدو اليوم خارج حدود المسؤولية، لكنها دوامة عليه في المحصلة، ألا يخرج منها بلا عقابها.