أدب وفنون

“يوميات طبيب في تل الزعتر” استذكار المجزرة في مدن الداخل الفلسطيني

أحيت مدن الداخل الفلسطيني المحتل (حيفا، ترشيحا، عرابة، أم الفحم، والناصرة) على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية، الذكرى الأربعين لمجزرة “تل الزعتر” التي نفذتها القوات الانعزالية اللبنانية عام 1976، مدعومة من جيش نظام الأسد الأب، وتحت أنظار قوات جيش الاحتلال الصهيوني، وذلك بمناسبة زيارة الطبيب الفلسطيني يوسف العراقي (أحد الناجين من المجزرة، والمقيم حاليًا في النرويج)، لمسقط رأسه في حيفا المحتلة، واشهار الطبعة الثالثة من كتابه الوثيقة “يوميات طبيب في تل الزعتر” الذي صدرت طبعته الأولى أول مرة عام 1977.

غلاف الطبعة الثالثة من الكتاب

شهد الطبيب يوسف العراقي وعاش مأساة المخيم التي نُقشت عميقًا في ذاكرته، وعبر عنها بهذه “اليوميات”، وأيضًا بلوحات فنية بريشته، محاولًا تجسيد ما تعرّض له سكان مخيم تل الزعتر الفارين من ويلات لم يُكتب عنها كثير، ولم تتناقل وسائل الاعلام إلا قليلًا منها.

يقول البروفيسور الفلسطيني جون منصور، في تقديمه للطبيب “العراقي” الذي استضافه “نادي حيفا الثقافي”، في أول أمسية له بحيفا المحتلة في فلسطين التاريخية: “لأن ذاكرة كثيرين قصيرة، ليس لذنب اقترفوه، إنما لكثافة الأحداث وتواليها يومًا إثر يوم، ولسعي مزيفي التاريخ إلى تبني أساليب التلفيق لدحر الحقيقة من ساحة التحدي، فإنّ مخيم تل الزعتر قد أصبح مَعْلَمًا وأثرًا بعيدًا زمنيًا، مع العلم أنّ المجزرة التي نفذتها القوات الانعزالية اللبنانية، مدعومة من إسرائيل وجيوشها الاحتلالية وقعت عام 1976 بحيث يندى لها الجبين وتعتصر لها القلوب. ولا نعتقد أنّها من الأحداث التي تُنسى. مجزرة رهيبة ذهب ضحيتها المئات من أبناء الشعب الفلسطيني خلال الحرب اللبنانية التي اختلطت فيها الأمور والأوراق… ودفع الشعب الفلسطيني الثمن ليس في تل الزعتر فحسب، بل في مخيمي “صبرا وشاتيلا” وجسر الباشا ومخيمات أخرى… والمجازر التي تعرّض لها الشعب العربي الفلسطيني عبر التاريخ، وخصوصًا منذ بداية الصراع بين الحركة الصهيونية ثم اسرائيل مع العرب والفلسطينيين، كثيرة جدًّا، ومن أبرزها مجازر دير ياسين والصفصاف وعيلبون. في 1948، ومجزرة كفر قاسم في 1956، ومخيم جنين وعمليات الاعدام الميدانية التي تقوم بها اسرائيل وغيرها.”.

وأشار “منصور” الذي أدار الأمسية، إلى أن “هناك في مخيم تل الزعتر الذي تعرّض سكانه اللاجئون إلى ويلات لم يُكتب عنها كثير، ولم تتناقل وسائل الإعلام إلا قليلًا منها. وما تناقلته كان عبارة عن معلومات وأخبار ضبابية ونتف من المعلومات. لكن الدكتور يوسف عراقي، طبيب المخيم، كان من بين القلائل الذين وثّقوا الحدث بتفاصيل دقيقة ومهنية، مليئة بالمشاعر الإنسانية والأخلاقية التي يمتاز بها إنسانًا وطبيبًا وفلسطينيًا. وجاءت عملية التوثيق بهذه الطريقة لتدمج بين الشخصي والمهني. فالطبيب يحمل رسالة إنسانية وأخلاقية ومهنية. ومتى وجد نفسه في الميدان فهو مجبر على القيام بواجبه الإنساني والمهني مهما كلفه الأمر. وهذا ما نجده فعلًا في نمط أطباء ذاك الزمن، الذين كان همهم القيام بواجبهم الذي يمليه عليهم ضميرهم الحي واليقظ”.

من ذاكرة الفلسطيني المغدور.

في ١٢ آب/ أغسطس الماضي حلت الذكرى الأربعون لمجزرة “تل الزعتر”، ويؤكد المؤرخون المعاصرون والبحاثة أن “تل الزعتر” محطة من محطات كثيرة في تاريخ النكبة واللجوء الفلسطيني التي لم تحظ بالبحث والتوثيق الكافيين لحفظها، غير أن الطبيب يوسف العراقي يحاول في كتابه هذا أن يوثق ما حدث في ذلك اليوم الذي سبق المجزرة وتلك الساعات القاتلة التي رأى فيها “الفاشيست” (الكتائب وحزب الأحرار وحراس الأرز) من أبناء أمته العربية، وهم يقتلون أبناء شعبه المنكوب اللاجئ، في ذلك المكان الذي لا يرى من يمر اليوم بالطريق العام المحاذي للمخيم أي شيء يدل على وجود حياة سابقة هناك.. منطقة وعرة تنتشر فيها بعض المصانع وصمت ورهبة يطبقان على المكان. هنا سفكت دماء بريئة ببرودة أعصاب، واغتصبت نساء وأذل الشيوخ على مرأى من أبنائهم، ولا يزال المجرمون طلقاء يجولون بيننا!

الطبيب “العراقي” استهل حديثه عن ذكريات ذلك اليوم (11 آب/ أغسطس 1976)، كيف أصبح معتقلًا قائلًا: “أخذوني في طريق مليئة بالجثث على امتداد 250 مترًا، نساء ومسنّين وأطفال، في حين خرج المقاتلون من الجبال ولم يبق غير المدنيّين في المخيم. كان المنظر مرعبًا ومكتظًّا بالجثث”. وأضاف: “ما إن انتصف نهار ذلك اليوم حتى مر بنا المسؤول السياسي، وتحدثنا عن آخر أخبار المخيم، فأخبرنا أن نحضر إلى مقر القيادة حوالي الساعة الرابعة لاطلاعنا على خبر مهم. خرجت أنا وأخ اسمه عبد العزيز، وللمرة الثانية كان خروجنا يثير كثيرًا من شجون الناس، كان هناك تجمع بالقرب من مبنى الطوارئ، جمهرة من الأهالي يتحدثون في ما بينهم غير آبهين بالقذائف. إنها المرة الأولى التي كنا نتجه فيها شرقًا إلى مقر القيادة في التموين، كنا نعبر الأبنية من خلال الحيطان المثقوبة، والناس ينظرون إلينا بدهشة وتعجب كأنما قرأوا شيئًا، ذهب معنا نزار (ممرض)، وكنا نمر عبر الملاجئ ونسمع همسات النساء (وين رايحين الدكاترة. لعل هناك أمرًا ما)”.

إنها خدعة وليست اتفاق

يتابع الطبيب “العراقي” سرده لما تبقى في الذاكرة من قسوة تلك الساعات: “في اليوم التالي سرنا ومعنا جرحانا نحملهم على ما توفر من حمالات وأبواب خشبية وتوجهنا بعد أن أخبرونا أن الصليب الأحمر ينتظرنا وكان خروجًا إلى الموت. كانت مجموعة من النساء والأطفال قد بدأت تخرج عبر الممر الاجباري. سرت ومعي طبيب سويدي وزوجته وكان الممرضون يتبعونني، وهم يحملون الجرحى، فأوقفنا اثنان من الفاشيين، أمرنا أحدهما: أن يقف الجميع ووجوهنا نحو الحائط، عندها شعرت أنها لحظاتنا الأخيرة، وفيما هم منشغلون بالحديث، دعوت الممرضين إلى التحرك بسرعة والاختفاء بين جموع الأهالي الخارجين، وأخبرت من كان حولي منهم بأن يخلع “المريول” الأبيض وشارة الهلال والصليب، لأنني عرفت أن أمرًا يدبر للطاقم الطبي، ولكننا لم نستطع تفادى الحواجز الكثيرة، وبدأ الوضع يصبح أكثر خطورة كلما تقدمنا، والفاشيون يطلقون النار فوق رؤوسنا وبين أرجلنا، وكانوا يفتشوننا ويأخذون كل ما نحمل من ساعات ونقود حتى وصلنا طريقًا اجبارية، وكانت هناك أعداد كبيرة من المسلحين الفاشيست، أوقفونا جميعًا بعدما عرفوا أنني الطبيب ومعي مجموعة من الممرضين، فحاولوا اطلاق النار علينا جميعًا، وفجأة أرى أحد مقاتلي الفاشيست وقد تقدم نحوى وهو يناديني د. يوسف، يوسف، لقد تعرف عليّ وأخذ يعرفني بنفسه وأنا من هول ما أشاهد لم أستطع النطق، وذكّرني بأنني أجريت له عملية جراحية وأنقذته بينما كان في حالة خطرة عندما أُحضر إلى المستشفى قبل الحصار الأخير، فحاول إنقاذي لكن الفاشي الآخر كان يريد اطلاق النار، وجرت مشاجرة بينهما، وفجأة برز من الخلف وجه مألوف، إنه الملازم “راجح”، وهو من جيش التحرير الفلسطيني الذي كان داخل المخيم، هرع إليّ وعانقني وحسم الموقف. قدم نفسه على أنه ضابط سوري، فحاولت جاهدًا حينها السعي لإنقاذ الممرضين والجرحى ولكن دون جدوى. قادوني إلى مدخل إحدى البنايات حيث أجلسوني ليمر أمامي الشريط، المجزرة، كنت أسمع الأصوات والصيحات تنطلق من خلف البناية، بعدها شاهدت الفاشيين وقد أوقفوا الممرضين طابورًا، اثنين اثنين وأمروهم بالسير إلى الأمام إلى أن لم أعد أستطع رؤيتهم ولن أنسى نظرات “خالد”، ذلك الممرض المتطوع، كانت عيناه تقول كثيرًا لي، ولكني لم استطع عمل أي شيء، وأحضروا الأطباء السويديين إلى الداخل، بعد قليل خرج أحد الفاشيين يحمل بندقية، وسمعت صليات كثيفة، وصراخ، وخيّم بعدها الهدوء، فأيقنت أنهم أطلقوا عليهم النار جميعًا، مرَّ شريط المجزرة أمامي رهيبًا”.

جدير بالذكر أن الطبيب يوسف العراقي، من مواليد قضاء حيفا العام 1945، وقد لجأت عائلته إلى بيروت في إثر نكبة العام 1948. أنهى دراسته الثانوية في مدارس المقاصد الإسلامية في بيروت.  ونال عام 1968 منحة من منظمة التحرير لدراسة الطب في موسكو، وفي صيف عام 1975، عاد إلى لبنان ليعمل طبيبًا في مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني في “تل الزعتر” طوال فتره الحصار، لمده سنة حتى آب/ أغسطس 1976.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق