السياسة الإيرانية كانت وما زالت حتى انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، إما أسود أو أبيض. لذلك رغم توقيع الاتفاق النووي، بقيت طهران على موقفها «أميركا هي الشيطان الأكبر». لكن بعد انتخاب دونالد ترامب، اندفعت طهران للانزلاق نحو مأزق سياسي جديد من نوعه، لأنها مثلها مثل 99 بالمائة من دول العالم لم تتوقع سقوط هيلاري كلينتون وفوز دونالد ترامب. مشكلة طهران، أن علاقاتها منذ توقيع الاتفاق النووي مع واشنطن ازدادت تعقيدًا، لأنها بحاجة لها وفي الوقت نفسه ترفضها ولا ترغب في صداقتها.
أما الآن، فإن طهران لا تعرف كيف ستتعامل مع الرئيس الأميركي الجديد الذي لا يعرف أحد حتى الآن مواقفه الثابتة من كل ملفات العالم، وإن كان يتجه بحكم «جمهوريته» نحو التشدد خصوصًا ما يتعلق بالعلاقات مع إيران انطلاقًا من ملف الاتفاق النووي.
هذا الغموض إلى درجة الجهل، أسقط المواقف الرسمية الإيرانية في حالة من القلق والتردد والتناقض. البداية من المرشد آية الله علي خامنئي الذي قال: «إيران لا تحكم على نتيجة الانتخابات.. نحن على أهبّة مواجهة أي حادث محتمل». «الحادث» المقصود هنا، هو إمكانية إلغاء «الادارة الترامبية» للاتفاق النووي. مع ما يعني ذلك من إمكانية العودة إلى حالة المقاطعة والعقوبات. ولا شك في أن مثل هذا الاحتمال يفرض كيفيّة مواجهته: هل تعود إيران إلى الانغلاق الداخلي، بكل ما يعني ذلك من وضع اقتصادي صعب جدًا، أو تعمل على فكفكة الموقف الأميركي بخطوات انفتاحية والى أي مدى خصوصًا على صعيد السياسة الخارجية، باعتبار أنّ مشكلة الداخل يواجهها أهل الداخل الإيرانيون إما يستكينوا لقرارات التشدد ونتائجها خصوصًا على الصعيد المعيشي أو ينفجروا في زمن لا ضبط لترددات الانفجار الداخلي على وقع الانشطارات الخارجية؟
بيان مصدر في الخارجية الإيرانية بعد الإعلان عن تمديد الكونغرس للعقوبات، يؤكد هذا القلق والتردد الى درجة افتقاد الموقف، إذ يقول المصدر (كما نشرته وكالة إيرنا): «إن تمديد العقوبات لا يعني تمديد قانون «داماتو» للعقوبات».. بعد عدة أسطر من البرقية نفسها «مدد مساء اليوم قانون داماتو المتمثل بفرض عقوبات على إيران في القطاع المصرفي والدفاعي والطاقة لمدة عشر سنوات.
الأغرب والأعجب (بدون مبالغة) أن البرقية نفسها تؤكد أن الجمهورية جهّزت الخيارات المناسبة لكل الظروف… وإن من واجب الرئيس الأميركي الحدّ من قرار تمديد العقوبات». إذن طهران تطلب «النجدة» من الرئيس دونالد ترامب الذي يرفضه، حتى لا يقع الأسوأ علمًا أن بروجوردي المتشدد في مجلس الشورى يقول: «نحن لا نخطط برامجنا وفقًا لمن يتولى الرئاسة في أميركا».
«ثعلب» السياسة الإيرانية هاشمي رفسنجاني يعيد تصويب هذا الاعتماد على الرئيس الأميركي لتحديد خيارات أميركا فيقول «إن ترامب له شخصية خطيرة جدًا إلى درجة أنه يشكل خطرًا على القواعد الدولية»، ثم يجهز على تعليق الأمل على ترامب فيقول «إن هيلاري كلينتون نفسها قالت إن الاتفاق منح إيران أكثر من اللازم». في هذا التحذير الرفسنجاني، سؤال كبير وغامض مثل الاتفاق وهو ماذا منح الثنائي أوباما – كيري «أكثر من اللازم لإيران»؟ هل كما يقال إن اتفاقًا أميركيًا – إيرانيًا تمّ توقيعه أو الاتفاق عليه، يقضي بترك إيران تتمدد سياسيًا في المنطقة؟ على الأقل فإن ترامب الأكثر تشددًا من كلينتون ومعه كونغرس ومجلس شيوخ أكثر تشددًا منه، لن يقبلوا بمثل هذا الاتفاق إذا وجد. ولا شك أن طهران تخشى هذا الاحتمال لأنه يضعها إما المواجهة المفتوحة وهي خطرة، أو العمل على تفاهمات تتضمن تنازلات مفتوحة من سوريا إلى اليمن وأيضًا في أفغانستان البعيدة عن الأنظار لكن الميدان القريب إلى الهمّ الاستراتيجي اليومي.
المتضرر الكبير من «السياسة الترامبية» في إيران، هو «الحرس الثوري»، لأنه خاسر في الحالتين. إذا تشدد واندفع الى المواجهة فإنّ عليه التعامل مع الداخل الرافض لهذه السياسة لأنها تضيق عليه معيشيًا. وإذا هادن وتراجع فإنه سيخسر نفوذه رويدًا رويدًا. لذلك يعمل على التحذير والتهديد دون معرفة ماذا لديه من إمكانات لتنفيذ هذا التهديد. الجنرال دهقان وزير الدفاع والجنرال الصفوي المستشار الأول للمرشد خامنئي قال: «إن انتهاك أو نقض الاتفاق النووي سيكلف أميركا ثمنًا باهظًا».
أين ستدفع واشنطن «الثمن الباهظ» في سورية والعراق؟ إن ترجمة ذلك في الاشتباك المفتوح على كل الاحتمالات، وهنا يصبح السؤال الكبير ماذا عن موقف موسكو في سوريا أساسًا من هكذا اشتباك علمًا أن فلاديمير بوتين ينتظر وصول ترامب إلى الرئاسة وكأنه جزء من خططه الاستراتيجية على قاعدة التحالف أو الشراكة. لا يمكن للقيصر المخاطرة بهذه الفرصة الاستثنائية من أجل المرشد. مصلحة روسيا أولًا.
مرة أخرى «الثعلب» رفسنجاني قدّم حلًا لمشاكل إيران على طريقته. كل كلمة «قطبة» وكل «قطبة» تشكل «مفتاحًا» لقراءة «السجادة المحاكة». إذ طالب في مقابلة مع صحيفة «آرمان» الإيرانية يوم الإثنين الماضي، بالسماح للاحتفال بـ«قورش». وأكمل هذا الطلب بتأكيده: «إن الفكر القومي هو أساس الحضارة الإيرانية». أي إن الفكر الإسلامي طارئ ولاحق على الحضارة الايرانية».
فماذا يبقى للجمهورية الإسلامية الإيرانية لتقاتل من أجله في مواجهة «الشيطان الأكبر؟».
(*) كاتب لبناني