صدر -في الآونة الأخيرة- باللغة الإنكليزية عن منشورات جامعة (يال) كتاب مهم للمؤلف كريستوفر فيليبس بعنوان “المعركة من أجل سورية: التنافس على الشرق الأوسط الجديد”، وفيه تحليل فريد وعميق، للدور الحاسم وغير المُستكمل اكتشافه، الذي لعبته الولايات المتحدة والدول الأخرى في “شكلنة” “الحرب الأهلية” الدائرة في سورية.
تمحورت أغلب التحليلات لهذه الحرب المستعرة في سورية حول الأحداث المحلية التي بدأت عام 2011، والتي لم تتدخل القوى الأجنبية، في العنف المتصاعد فيها، إلا بعد فترة من الزمن، لكن هذا الكتاب يختلف، فهو لا يعير كثير أهمية لهذه الأحداث المحلية، وعوضًا عن ذلك يُجادل فيليبس في الأبعاد الدولية، التي -برأيه- لا تحتل المرتبة الثانية، بل هي أساس الحرب السورية، والتي كانت نتيجة لهذه الأبعاد، منذ بدايتها، حيث تأثرت بأوضاع المنطقة، وبخاصة الفراغ الحاصل نتيجة الانحسار المحسوس لدور وقوة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، الذي أدى بدوره إلى انبثاق ترتيب جديد للمنطقة يلعب الدور الأساسي المحرك فيه كل من الولايات المتحدة وروسيا وإيران والمملكة العربية السعودية وتركيا، والتي تتنافس فيما بينها بقسوة؛ من أجل النفوذ على أرض المعركة في سورية.
معتمدًا على وفرة من المقابلات الشخصية، يُنشئ فيليبس سردًا جديدًا عن الحرب السورية، دون أن يبرئ نظام الأسد الذي يصفه بأكثر من موقع بـ “الوحشي” و”الدموي”، ويكشف -كذلك- العامل الخارجي المفتاحي في تصاعد وإطالة أمد النزاع، آخذًا في الحسبان الاستراتيجية الغربية ضد (تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) ليصل إلى رؤية واستنتاجات حول مستقبل سورية والمنطقة.
يتألف الكتاب من 310 صفحات، تُقسم إلى عشرة فصول: سورية والشرق الأوسط عشية الحرب – الربيع العربي يأتي إلى سورية – على الأسد أن يتنحى؟ ازدواجية المعايير وتردد الرد الدولي – المؤسسات القانونية الدولية والانزلاق إلى الحرب – الممثل الشرعي؟ الدعم والتآمر على المعارضة السياسية السورية – تسليح الثوار! ودعم المعارضة المسلحة – إلى السيف.. حلفاء الأسد يأتون – لا خطوط حمراء: مسألة التدخل العسكري الغربي – السقوط في الفوضى.. مأزق وظهور (داعش) – دخول روسيا.. وبوتين يرفع سقف الرهان – استنتاج: الحرب التي خسرها الجميع.
يستعرض الكاتب في بداية الكتاب، تاريخ سورية تحت الحكم العثماني والاحتلال الفرنسي، وتشكّل الدولة السورية، وظهور الفكر القومي العربي والسوري، والإسلام السياسي، ومن ثم؛ سيطرة حافظ الأسد على السلطة، والأحداث التي مرت بسورية والمنطقة، كأحداث حماة والحرب الأهلية اللبنانية ووصول بشار الأسد إلى الحكم والآمال التي عُلِّقت عليه، والحراك في سورية (ربيع دمشق)، وكيفية قمع السلطة لهذا الحراك. كما يُلقي الضوء على أوضاع المنطقة من احتلال العراق إلى الدور الإيراني المتنامي ومحاولة السعودية التصدي له، وصولًا إلى الثورة السورية، ويُحاول أن يُبرهن أن اللاعبين الخمسة الأساسيين في هذا النزاع لم يفعلوا إلا القليل للجم الأطراف منذ بدأت الأزمة عام 2011، والحيلولة دون الوصول إلى نزاع مُسلّح، بل يسعى للتأكيد على أن بعض الأطراف شجع هذا، وساعد بإطالة أمد هذا الصراع، عن طريق تقديم الدعم فقط للمحافظة على وجود حلفاء كل طرف في أرض المعركة، ولكنه غير كاف لجعل هذا الطرف ينتصر، أو إجبار الطرف الآخر على الدخول بمسار التفاوض بجدّية، ولا يخفي المؤلف انتقاده لبعض المحللين لأنهم برأيه يميلون إلى إلقاء اللوم على دولة أكثر من غيرها، بينما -برأيه- تتحمل هذه الدول الخمس نفس القدر من الملامة والمسؤولية.
قبل أن تبدأ الأزمة السورية، وانتهاء وجود القطب الواحد الأميركي، وبروز شرق أوسط متعدد الأقطاب، وبعد الإخفاق الكبير في الحرب العراقية، والأزمة المالية وخيار أوباما الانسحاب، حاولت كل من روسيا وإيران والسعودية وتركيا استغلال هذا الانحسار للدور الأميركي لبسط نفوذها، مع افتقارهم للمقدرة على استيعاب طموحاتهم، فأصدقاء المعارضة لم يستطيعوا إنجاز ما أرادوه دون الدعم الأميركي، أما روسيا وإيران، فقد أثبتوا عدم قدرتهم على تهدئة ولجم تصرفات حليفهم الأسد من جهة، ولأن أجندتهم الجيو-سياسية وضعتهم في معسكره.
يُسلّط الكاتب كذلك الضوء على الدور الأميركي المتقهقر والمتراجع، ويسرد كيف انتُقد الرئيس أوباما في دياره ودوليًا لعدم فعله الكفاية في سورية، وكيف لو أنه تدخّل ضد الأسد بشكل مباشر أو عن طريق تقديم دعم كافي للمعارضة المسلحة لما ظهرت المنظمات المتطرفة، ولكانت هذه الحرب قد انتهت قبل هذا بوقت كبير، وكيف لم يقتنع أوباما برأي الذين طالبوه بتدخل أكبر، وبعودة نفوذ أميركا إلى الشرق الأوسط، مشيرًا إلى أن الرئيس المنتخب بعد أوباما سيواجه هذه الأصوات نفسها، المُطالبة بعودة قوية وموقع أكبر في المنطقة.
كتاب جدير بالقراءة، فمؤلفه كريستوفر فيليبس، كان يعمل كمساعد محرر لشؤون سورية والأردن في “الإيكونيميست” ونال قبل هذا درجة الماجستير في العلاقات الدولية من مدرسة لندن للاقتصاد، ودرجة الدكتوراه من جامعة كامبردج، وهو الآن زميل في برنامج شمال إفريقيا والشرق الأوسط في دار كاثام، ويعمل -أساسًا- على أبحاث النزاع السوري وتأثيره على الدول المجاورة والشرق الأوسط بشكل أكبر.
ويُشار إلى أن فيليبس عاش في سورية مدة سنتين، متنقلًا بين حلب ودمشق واللاذقية، وتركز كثير من دراساته على سورية، ومنذ اندلاع الثورة -عام 2011- يُقدّم استشاراته لحكومات ووكالات عدة، ويُشارك في كثير من البرامج التلفزيونية والإذاعية، ومن أبحاثه “العلاقات السورية التركية منذ عام 1938”.