أدب وفنون

“الخوف في منتصف حقل واسع” الحقل الدلالي (الإشاري والرمزي)

من مناظير الوعي الاجتماعي والثقافي المتباين، وفي أسلوب فني كثيف، يحتل الرمز والإشارة اللماحة فيه موقعًا حساسًا ومميزًا، تباشر مجموعة (الخوف في منتصف حقل واسع) للكاتب مصطفى تاج الدين الموسى، الصادرة عن منشورات المتوسط- إيطاليا 2015، مختلف الهموم ّالسياسية والاجتماعية والفكرية والعاطفية والسيكولوجية وغيرها، وتعتمد أساليب التعبير الفنية والمبتكرة، حيث اللغة الإشارية أبعد دلالة وأعمق من وظيفتها التواصلية، فهي تشعرك  بمزاج الكاتب الحاد ومناخاته الشعبية التي يشيعها؛ حتى حين يتقمّص شخصية الراوي حد المماهاة، وعبرها نتذكر مصداقية ودقة بودلير في توصيفه للفن، بقوله: هو: “سحر إيمائي يحتوي الشيء والموضوع في آن واحد، والعالم الخارجي للفنان والفنان ذاته”.

واقعيًا، تعيدنا قصة (الخوف في منتصف حقل واسع) المفتاحية في موقعها وفي موضوعها وحتى في إعارتها عنوانها للمجموعة كلها، عبر الرمز وبالإشارة اللماحة المبطنة بالسخرية، إلى مرحلة التحرر من الخوف واقتلاع رموز الوهم العالق بالنفوس، ومثله الواقعي اقتلاع وتحطيم تماثيل الديكتاتور المتعالي في عرشه، حين كانت تملأ فضاءنا البصري، لتأبيده في النفوس واقعيًا وسيكولوجيًا. لكنّ الشاب الأصغر عمرًا (الجيل) وكمعادل فني سردي، كان الأسرع في الكشف عن تلك (الفزاعة) التي فقدت وظيفتها الرمزية القائمة على الإيهام، بقوة حضور الخوف واستمراره في النفوس، بدليل أنّ الطيور تحط وتلهو حولها بلا اكتراث، ومن ثم ليتفق مع والده على اقتلاعها ورميها في السقيفة يأكلها غبار السنين، ولا يفوتنا التذكير بالإشارية وبعد الدلالة النفسية للسعة (في منتصف حقل واسع) كامتداد لهيمنة الخوف وسكونية الواقع، واستثمار إمكانيات النكرة الموصوفة بإفادة تعميم الحالة وانعطافها على محورها في نقطة المنتصف، وطبعًا، ثمة أشياء وأدوات أخرى تعمق مناخ انتهاء صلاحية الرمز وانقطاعه عن الزمن، كالبيت القديم والغرفة المنعزلة وإبريق الشاي العتيق، وكلها توفر المناخ التقليدي لمستبد، يشتهي أن يظل مرهوبًا ومؤسسًا لسلالة يتناقلها الورثة جيلًا بعد جيل.

ولكن يجب الحذر من أن يظنّ أحد أن القصة، التي أخذت هذا العنوان مجرد مقولة سياسية عن شهوة التحكّم عند المستبد، فالقصة فنية خالصة وإشاراتها بعيدة عن المباشرة الفجة، وهي قصة تتركب أجزاؤها، عبر محورها السردي المستقل –تمامًا- عن خلفياته الإيديولوجية، بل إنّ أدواتها الفنية تغدو مستساغة حين تدخلنا في مناخاتها النفسية والاجتماعية، وتعيدنا إلى خلطة السحر في الحكاية الشعبية التقليدية “شبيك لبيك عبدك بين إيديك” وأجواء إبريق الشاي المغبر العتيق والسقيفة المفعمة بالغبار وفوضى الكراكيب، أو في رسم صورة لفزاعة “ثمّ وجدت نفسي في منتصف حقل واسع، وبساعدين ممدودين جانبًا وعلى رأسي قبعة قش” .. “شعرت بالسعادة؛ ما أجمل أن تكون مخيفًا للآخرين، حتى ولو كانوا طيورًا فقط.” وتنتهي الحبكة باقتراح الشاب الأصغر: “أبي.. هذه الفزاعة غير مفيدة.. لنتخلص منها.. اقتلعوني.. رموا بي إلى داخل السقيفة… لم أعرف كم مرّ علي من الوقت وأنا هنا، يمكن سنوات.. يمكن عقود..”

 

في (ليلة باردة للقهر المختبئ تحت السرير) جدلية للتصادم بين نمطين اجتماعيين أو وعيين متباينين يتعايشان تحت سقف واحد، فكان لابد لأحدهما أن يموت قهرًا أو أن يختفي بالانتصار النهائي للوعي البراغماتي المنسجم مع اخلاقيات العصر ودينميات تفكيره وإيقاعه، لذا يموت الوعي المثالي (الفضيلة) بالمفهوم التقليدي ممثلة بموت رمزها (نهاد) بعد أن شهد تعرية وسقوط مثال العفة والترفع والفضيلة ممثلة بـ (يمنى) الزميلة الجامعية التي كساها خيال (نهاد) التقليدي البريء، بهالة رومنسية جعلتها في تصوره مثالًا لعالم المثل الذي ينهار من حوله؛ حيث ينجح زير نساء في استجرارها إلى فراشه -ليمضي معها ليلة حمراء- فيصدم الوعي المثالي ويموت (نهاد) المختبئ تحت السرير -قهرًا- باعتباره آخر رموز العجز والشاهد على عالم قيم اجتماعية وأخلاقية ينهار أمام عينيه، وفقًا لوعي نهاد وثقافته وأخلاقياته طبعًا، وطبيعي –أيضًا- أن نرى الربط العميق بين عقدة المُثل والقيم التي يدّعيها (نهاد) وبين ضعفه وعجزه وتخلفه عن مجاراة زميله وأخلاقيات عصره، فكأنّ عالم المُثل عنده محمول على ذلك، ومن هنا جاء العنوان (ليلة باردة للقهر المختبئ تحت السرير) فالقهر وتحت السرير والسرير ذاته، ما هي إلا إشارات ومناخات لعقدة الجنس (التابو) المستحكمة بوعي جيل يتوارث الفضيلة والقيم، ويصدمه انحسار الحشمة وانهيار القيم مقابل تعميم أخلاقيات السلعة المعولمة وأخلاقياتها!

قال له (نهاد) بحنق متلعثمًا كعادته: “والله تعبت بسببك.. كل فترة تجلب فتاة.. مرة تضعني في الخزانة ومرة في السقيفة ومرة تطردني لأنام عند جابر.. إلى أين أذهب الآن والمطر ينهمر في الخارج بغزارة؟

  • أقترح عليك أن تختبئ تحت السرير.. وأكيد سماعك للهاثنا طوال الليل لن يسيء لعذريتك..
  • ومن هي التي اصطدتها لتكون عشاءك الليلة؟
  • يمنى…

سقط قلبه ليتهشم كمزهرية، ارتجف كل جسده.. يمنى التي كانت منذ قليل تسبح في خياله بألوانها البريئة.. استدار إلى سالم كأنه عجوز قد شاخ ثانية:

  • أنت تكذب.. يمنى محترمة وعاقلة
  • لا أحد محترم وعاقل في هذا العالم سوى غبائك

” كانت ثيابهما تتساقط -تباعًا- على الأرض، وكل شيء يسقط داخل روحه بضجيج موجع.. عندما شاهد حمالة صدرها تسقط، خوف عظيم انفجر داخله فأغلق عينيه كمن يهرب من رؤية مجزرة، تحت السرير بين عتمة وبرد ضاعت روحه.

 

أما قصة “الجميلة النائمة في عربة القطار” فهي تُبنى على إشكالية وضع المرأة في الوعي الذكوري العام، حيث يختلس شابان النظر إلى امرأة نائمة في عربة القطار، وقد انحسر طرف ثوبها عن ركبتيها، مثيرًا فيهما شتى الشهوات والخيالات الجنسية، مما يشير إلى مفاعيل الكبت الجنسي أمام التابو الاجتماعي، فكل منهما يحذر الآخر ويواربه ويداريه لاعتقاده أنها زوجته، لتكون المفاجئة في نهاية الرحلة، أنها امرأة ميتة ووحيدة وليست زوجة لأحد فيشعران بالخيبة ويتوزعان أشياءها!

التلصص في المشهد وهو تجسيد فعلي لحالة مأزومة ونتاج لكبت متراكم، والقطار هو مسار حياة لأناس لا تربطهم أية روابط اجتماعية أو عاطفية أو غير ذلك، والمرأة في المشهد جسد مثير للشهوة، حتى وهي مجرد جثة خارج دائرة الإحساس بالزمن تمامًا. وهكذا يبدو التلصص كناتج اجتماعي للكبت الموروث. إنه مخبوء نفس مشوشة حذرة قلقة من الآخر المفسد للاستمتاع باللحظة. إنه في الواقع وعي اجتماعي عريق في الذكورية التي لا ترى في المرأة إلا حالة اقتناص للذة محرمة، يشوبها دائمًا الحذر والقلق والخوف من الآخر، الشخص أو المجتمع، باعتباره الشريك الأكبر والأهم في تعميم هذا الوعي واستمراره.

وهنا في هذه القصة يأخذ السرد كامل تفاعلاته مع حالة الشخص ومنعرجات حركة القطار وانقطاع المرأة النائمة عن محيطها، ومع الآخر، بوصفه محفزًا لحراك السردية وانعطافاتها، وفي توليد المشاعر والأحاسيس، مع التركيز على وجود المرأة كمحور فني لكامل السردية وتداعياتها.

وهنا حيث تهيمن السردية بضمير المتكلم المفضل لدى الكاتب، المتقمص لشخوص قصصه، يغيب الحوار -تمامًا- أو يشار إليه إشارة، لأنّ الآخر غير موجود إلا بوصفه رمزًا ضاغطًا ومزعجًا، يشار إلى وجوده بالحذر والريبة، كحارس مؤتمن للقيمة الأخلاقية الاجتماعية العليا، التي تمثلها المرأة ويكشف عن مرتكزاتها الكاتب النقدي الذي يعمل على خلخلة ثوابت هذا الوعي التقليدي المعوّق.

وإذا كنت في هذه العجالة أكتفي بإلقاء الضوء على هذه النماذج الثلاثة وبحدود المساحة المتاحة للتعبير، فلا يعني أنني قد استنفذت كل ما يمكن أن يقال، بل إن الكثير مما يجب أن يقال سأتركه إلى دراسة أوفى، وأكتفي الآن بالقول إنّ أسلوب كاتبنا ينطوي على الكثير من المفارقات الذكية في الوعي والسلوك وفي الأخلاقيات وفي السياسة وغيرها، وكلها تبنى على جدلية داخلية ذات بعد وجداني حار!

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق