في البدء، ومنذ عصر الرعي الأول، وزمن الأمومة المشاعي (الماتريرخات)، كانت المرأة/ الأم هي أساس “الأسرة” وعمادها وسيدتها وحاضنتها، وكان الرجل -مثله مثل كل أفراد القطيع أو القبيلة- ينتمي وينتسب إليها، ويطيع أمرها ويدافع عنها. وكانت “الأم المقدسة” هي الهوية الأولى و”الوطن” الأول للبشرية، ولم يقتصر دورها على الوظيفة البيولوجية (الإنجاب) فحسب؛ بل تعدّته إلى وظيفة المربي والمرشد المسؤول عن حماية أبنائه -من العوادي- والقاضي المكلّف بحل نزاعاتهم وتنظيم حياتهم المعيشية (السياسية والاقتصادية). وهذا الأمر يتسق مع الطبيعة، وينسجم معها إلى أبعد حد؛ فالإنسان الجنين يعشش في رحم الأم تسعة أشهر؛ يتغذى من مشيمتها وينمو في داخلها ويولد من لحمها، ويرضع حليبها حولاً أو أكثر؛ ليثبت إثباتًا قاطعًا، لا ريب فيه، أنه وليدها، بغض النظر عن نطفة الرجل التي لقحتها، والتي لا أحد يستطيع أن يؤكد –حينئذ وفي كل حين- من أي ذكر قد تكون؛ فمؤسسة الزواج –كما نعرفها اليوم- لم تكن موجودة، وكانت المرأة تختار الرجل الأقوى والأجمل ربما، كما نرى ذلك عند أغلب الحيوانات.
وقد احتاج الأمر إلى انقلاب كبير، هو الأول في حياة البشرية، لجعل دور المرأة/ الأم يتراجع ويحل محلّه دور الرجل/ الأب. إنه الانقلاب الذكوري الذي أسس للسلطة الذكورية البطريركية (باتريارخات)؛ سلطة العضلات والسلاح والحرب، أي: سلطة القوة. وقد حدث ذلك نتيجةً طبيعية لنشوء المُلكية والحاجة إليها، والطمع في حيازة المراعي والمواشي، ومصادر الماء والكلأ، الذي أدى إلى التنازع على تلك الثروة والذود عنها.
لم تكن المُلكية مصدرًا للحروب فحسب، بل كانت السبب في ما آل إليه وضع المرأة من اضطهاد وعبودية، وبخس لحقوقها؛ فالملكية التي باتت في حوزة الرجل وحده، يجب أن تؤول إلى وريث شرعي، ولا يمكن معرفة هذا الوريث الشرعي إن كان من صلب ذلك المالك/ الرجل، إلا بعزل المرأة، ومنعها من التواصل مع بقية الذكور، فابتدع مؤسسة الزواج وخلق منظومة اجتماعية وأخلاقية محكمة، تضطهدها وتحاصرها جسديًا ونفسيًا وفكريًا، من خلال تلك المؤسسة التي تم فيها حبس المرأة وتقييدها؛ حتى أن المخيلة الذكورية وصلت لدرجة اختراع (حزام العفة الحديدي) الذي يقفل فيه الرجل على الأعضاء التناسلية لزوجته، ويضع المفتاح في جيبه؛ كي يضمن عفتها وإخلاصها، محولًا إياها -في نهاية المطاف- إلى جزء من ملكيته الخاصة؛ يشتريها ويتصرف بها كما يشاء؛ سواء كانت زوجة أو أمَة أو سبية أو عشيقة، ولذلك؛ نرى هذه العداوة الأبدية، والعلاقة الخفية بين المرأة والحرب، التي تُسبى فيها -بالضرورة- المرأة وتُختطف وتُغتصب.
فُرض ذلك عليها في العصر العبودي الوثني، كما فرض -في ما بعد- في عصر الشرائع “السماوية”؛ عصر “الإيمان”، والديانات التوحيدية المتعاقبة، التي رسخت هذه المفاهيم المنافية للطبيعة، وجذّرتها؛ فعدّت المرأة مصدرًا للفتنة والرذيلة، وجعلت الرجال قوامين على النساء، وحرّمت الزنى والفحشاء والغواية والحب، وكانت النتيجة حرمان المرأة من أبسط حقوقها الإنسانية والقانونية (الحرية والعمل والإبداع)، حيث أضحت ملحقة بالرجل وعبدة له، وانحصر دورها – في الفراش والمطبخ وحسب، وإنجاب “ولي عهد” ذكر يرث ثروة أبيه.
لسنا -الآن- بصدد الحديث عن دور الدين في هذه الجريمة الإنسانية، المنافية للخَلق، لكن يحق لنا أن نسأل، بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة: إن كان الخالق -بحكمته- قد جعل من كل نوع زوجًا؛ بهدف استمرار الحياة وتجددها، (وهي الوظيفة الأساسية للخلق)، فهل هو من ميز بين الذكر والأنثى، وجعل وظيفة الذكر الحرب والكسب والتوريث، ووظيفة الأنثى الإنجاب وتربية الأطفال والمطبخ؟ أم هو طمع الأقوى (الرجل) في الكسب والوهب والتمتع بخيرات وملذات الحياة؟
تعليق واحد