هموم ثقافية

الأدب في مواجهة الانشطار الإعلامي

ليس الأمر كثرة إنتاج، بل أكثر من ذلك. كل شيء صار مدونًا، كل شفهي مكتوب، كل خبر أو همسة أو تفصيل بات متاحًا، وفي أي وقت.

ما الفرق بين خبر على صفحة إنترنت ترفيهية، يقرؤه مليونا شخص، وبين قصيدة يلقيها شاعر في أهم العواصم العربية؟ كل شيء متاح على المواقع، وتصدح به الإذاعات، وتبثه فيديوهات اليوتيوب؛ حتى الإشاعة تأخذ حقها في نشرة الأخبار وتحليلات الصحف، فالشائع والآني والطريف وجبات دسمة لماكينة الإعلام.

أين الفن من كل هذا؟ قد يكون سؤالًا مشروعًا، ولكن من الغباء -وربما العبث- البحث عن الفن خارج هذا كله. مكان للفن! مكان للشعر! جزيرة عذراء! هذا ما يحلم به بعضهم بعد أن انتهكت الأجهزة الإلكترونية أسرَّة نومهم، وصارت شامات أجسادهم معروفة، وتبث على مدار الساعة لكل سكان العالم. من الصعب تحقيق هذا الآن؛ فقد تداخل الفن بالإعلام اليومي، والكتابة مع الحدث والحديث اليوميَين.

ينظر الناقد والإعلامي المصري، عبد العزيز شرف، إلى العمل الأدبي بوصفه كائنًا مستقلًا، له مساره وحياته، أو ربما حدثًا إعلاميًا، ويدرسه دون أن يكون تابعًا لشيء محدد، كشخصية الاديب، أو الأحوال الاجتماعية، ينظر إليه من كل تلك الزوايا، ويكتب تاريخ دورته الاتصالية كاملة، ولا تعنيه رسالة العمل، فالعمل -بحد ذاته- رسالة، وقد أُرسلت وانتهى الأمر.

في كتابه: ‹‹التفسير الإعلامي للأدب العربي›› يقدم العبارة الإعلامية الشهيرة: “من؟ – يقول ماذا؟ – لمن؟ – وما هو تأثير ما يقال؟ – في أي ظروف؟ – ولأي هدف؟ – وبأية وسيلة؟” ويتابع بأن “التفسير الإعلامي يقوم على أساس من الوحدة الاتصالية؛ فالأديب والمضمون والوسيلة والمستقبل والاستجابة، هي جميعًا حلقات متصلة في سلسلة واحدة”.

إن العقل يتطور والواقع يتطور معه، بحسب هيجل؛ لأن كل عصر يصنع صورة ذهنية لواقعه. الفن أصدق تعبير عن هذه الصور، وقد أسماه أتباع هيجل نهاية الإلهام. يقدم ‹‹شرف›› هذا الرأي وغيره؛ ليقول: “إن الناقد يجب أن يمسك بيديه مفتاح أرض الأحلام، وعليه أن يثمن قيمة الكشف الأدبي في كل عصر وظرف، وأن يساعد الأديب في هذا الكشف، وأن يشير إلى الصور الحيوية الدافعة للمجتمع، المعبرة عن القسم الأكبر منه، ويستطيع أن يستفيد من أي تجربة أو بحث إعلامي، وقبل ذلك، من كل النظريات العلمية والآراء الفلسفية، دون أن يخل بشرط الوفاء للنص الذي يسعى لإضاءته.”

التفسير يختلف عن الحكم، فهو ينمو مع معايشة النص، أو الحركة الأدبية أو الجماعة التي تعبر بشكل ما، فيما يستند الحكم إلى منهج معين. في زمن يشهد التغيرات كافة، السياسية والاجتماعية، ومع تطور شبه يومي، تشهده التكنولوجيا ووسائل الاتصال، لا بد من البحث في تأثيرات كل جزء من عملية التواصل مع العمل الأدبي، وكيف تنمِّطه، أو تمسخه، أو تساعده على التحقق والوصول. أضف إلى ذلك عوامل أخرى، كالخلاف حول معنى كلمة نص، بعد انهيار قدسية الشكل، نواجه اليوم نصوصًا أدبية، ونقرؤها في الجرائد والمجلات؛ بعضها سرد يوميات، وبعضها حلم سوريالي، أو كتابة برمزية تعبر عن الذات والواقع معًا. ما الشعر، وما غير ذلك؟!! أليس الأجدى أن نحتفي بالنص الحيوي والكاشف، دون أي حسابات أخرى.

من أين تأتي الصور؟ هل تأتي من الخيال الجمعي، والنص، بوصفه كائنًا جديدًا ليس أكثر من تسمية للحلم، والشاعر يعلم الواقع أسماءه الجديدة؟ ربما.

تنتشر الرداءة في وسائل الاعلام، ولم يعد الأمر مقتصرًا على فن جماهيري رديء، بل سرت عدوى المسخ إلى الفنون الراقية، فها هي قصيدة النثر، المنتج العالمي المستورد، فخر شعراء التجديد!!، تتحول اليوم الى بحث سريع عن مفارقة، أو مزحة أو حكمة قصيرة في نصوصها الجديدة، يشتكي بعضهم من أنهم يستيقظون ليجدوا مئة قصيدة حب كل صباح، ويعللون ذلك بأمراض نفسية. نعم هذا صحيح، واجتماعية أيضًا، ويعلق أحدهم: “شعب ينقصه حنان”. بينما يبحث الأدباء عن الأسرار التي تمكنهم من الاتصال بالجماهير، وعلى الصحافي أو المتابع أن يطالب بألا يصاحب ذلك انحدار في القيمة، وخفة في الطرح، وأن يحتفي بكل جديد يقدم شيئًا مهمًا للمتلقي، وأن يتعامل بجدية مع وجوه الفضاء المفتوح، ويحترم حرية التعبير؛ عسى أن ينتهي زمن أصبحت فيه كلمة الكتاب الممنوع؛ لطرحه قضايا جنسية أو سياسية، تستحوذ على اهتمام القراء، بغض النظر عن المحتوى، وعوضًا عن ذلك؛ قد نجد الكاتب القريب من الناس بلا برج ولا بهرجة، ونجد المثقف العضوي يتشارك أفكاره مع الناس.

 

نجد اليوم تأثيرات كثيرة لوسائل التواصل على اللغة، ربما يحتاج البحث فيها لجهد علمي، هناك حالة من الألفة مع الكلمات الشائعة، والتقارب بين الفصحى والعامية، بين الشفهي والمكتوب، بين التواصل والفن. عند قراءة أحد الشباب لكلمة ‹‹تحايا››، ج تحية، على موقع فيس بوك ظنَّها لا تنتمي للغة العربية، واعتبر الكاتب مخطئًا، فوسائل التواصل تفرض استخدام لغة مألوفة مع أكبر قدر من السهولة والمرونة، والبعد عن غريب الألفاظ. [أصاب الشاب وأخطأ الكاتب، فجمع تحية تحيّات، وليس تحايا. المحرر اللغوي].

المثقف العربي يفاجأ -اليوم- بمنح جائزة نوبل للمغني الأميركي، بوب ديلان، ويشتكي من أن عدد الكتاب أكثر من عدد القراء، يرى النخبوية استبيحت، ولم يعد هناك مكان للفكر، والبحث المجرد من كل غاية في زمن السرعة، وإنتاج الوجبات السريعة. يشبه الناقد ‹‹مصطفى بيومي›› ما حدث مع المثقف العربي بما حدث مع مذيع نشرة الأحوال الجوية حين أمطرت السماء عليه في نزهته الخلوية.

وقد طرح ‹‹بيومي›› هذه النقطة -الشهر الماضي- في حواره مع ‹‹العرب اللندنية››: “لا يزال المثقف العربي قابعًا في تهويماته النخبوية التي تهتمّ فقط بالآداب والفنون الرفيعة. إنه لم يدرك بعد أن ميلتون المنتمي إلى الأدب الرفيع يقف على قدر المساواة مع مادونا، وأصبح ينظر إلى شكسبير العظيم وموسيقى الراب بوصفهما ممارسات ثقافية دالة. وأن أساتذة الأدب الفرنسي قد هجروا الكتابة عن الأدب الفرنسي الرفيع مهتمين بالكتابة عن مسلسلات الحياة العائلية المنزلية. لا يزال المثقف العربي يقف في صفوف الأدب النخبوي. لا بدّ أن ننظر إلى المسألة من زاوية التأثير ومن زاوية الممارسات الثقافية المتنوعة التي تضع الرفيع والراقي إلى جوار الشعبي والجماهيري؛ نحن لا نتكلم عن درجة التقبل، ولكن نتكلم عن الوجود الفاعل في الممارسة الثقافية”.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق