قبل سبعين عامًا أو أقل، حملوا مفاتيح بيوتهم وغادروا، قسرًا لا رغبة، ودّعوا بياراتهم وأشجار زيتونهم وكروم عنبهم، وتركوا الديار على أمل العودة، عودة عاجلة لا آجلة، فالسمكة لا تعيش خارج الماء.
تشرّدوا في أركان الأرض، انكسروا وتعثّروا ثم نهضوا، ناضلوا بالكلمة والأغنية والقصيدة، وحملوا السلاح فدائيين من أجل الوطن، سجّلوا تاريخهم كي لا يُزوّر، وداروا في أصقاع المعمورة يشرحون مأساتهم، ويناشدون ويطالبون ويرفعون الصوت عاليًا، لكن غالبية الآذان كانت صماء.
مرّ جيل وراء جيل، ومازال مفتاح الدار في قبضة اليد، ومازالت الذكريات في البال، والوطن على بعد فرسخ، مجرد رمية حجر، يرونه ولا يستطيعون الوصول إليه، يُمنّون النفس بالعودة، كحق لا يُعلى عليه ولا يُناقش.
مرّ من الأجيال أربعة، ولم يعرف اليأس طريقًا لهم، كانوا جدارًا في وجهه، وظلت الجدة العجوز تجلس على كرسيها عند عتبة الدار، وتحكي حكايات عن التين والزيتون، والزعتر البري برائحته الأخّاذة، وعن زفافها، الحنّة والدامر المُقصّب والعصبة المزركشة والزنار، ومازال الطفل الصغير يحلم، بالعودة لأرض أجداده، وطنه الذي لا بديل عنه، إلى عكا وبيسان وطولكرم والخليل، وبئر السبع والقدس وحيفا ويافا والجليل.
سبعون عامًا أو أقل، من المرارة والحسرة والانتظار، في القلب غصّة، وفي الروح قهر، لكن الأمل والحلم لم يندثر، والتوق والحنين لم ينطفئ، والإصرار على العودة لم ولن يموت.
ولأنه لا يذبل عشقٌ وراءه عاشق، ولا يموت حقٌ خلفه مُطالب، ولا ينتهي حلمٌ طالما هناك ثائر، فإنهم لابد عائدون، ومهما طال الزمن راجعون، لأرضهم وبياراتهم، لبحرهم وجبالهم، لحِمّتهم وأقصاهم وكنيسة قيامتهم، لقصر هشام وميناء حيفا وكنيسة البشارة، لمهد مريم العذراء والسيد المسيح.
قصتهم قد تشبه قصة كثير من السوريين، ممن تركوا بيوتهم وأرضهم، حواكيرهم وبساتينهم، أشجار كرزهم وتوتهم، وفرّوا هاربين، من الدمار والموت، مرغمين مجبرين، ولم تبارحهم آمال العودة، فالسمكة السورية أيضًا لا تعيش خارج الماء، والتضامن مع هذا الشعب، يعني التضامن مع ذاك، فالمحنة نفسها، والآمال كذلك.
السوري والفلسطيني، كلاهما عاشق، وسورية وفلسطين هي العشيقة، وكلاهما أيضًا لابد عائد، إلى الياسمين وشقائق النعمان، إلى العشق الأول والدفء الأول، فالبحر باق، بينما الزبد الذي يعلوه زائل.