مقالات الرأي

المعارضة السورية مطالبة بمراجعة طريقها

بعد ستة أعوام على اندلاع الثورة السورية، ثمة ضرورة مُلحّة لإجراء مراجعة نقدية مسؤولة لمسار الثورة السورية، لتجربتها النضالية، لشعاراتها، لطرقها في العمل، لعلاقاتها الداخلية، وطرح أسئلة من نوع: أين نجحت؟ وأين أخفقت؟ ولماذا حصل ما حصل؟ وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ أو ما السبيل إلى إدارة أفضل وأنجع للثورة، وبأثمان ومخاطر أقل؟
لا تتأتّى ضرورة وأهمية مراجعة كهذه من الاستعصاء الذي تعاني منه ثورة السوريين فحسب، ولا من إخفاقاتها، سواء تلك التي تعود لأسباب ذاتية أو موضوعية، أو الناجمة عن التلاعبات والتدخلات الخارجية، وإنما تتأتى -فوق كل ما تقدم- من عدّها حاجة ذاتية لتصحيح مسار هذه الثورة، وتقويم أدائها، وتطوير بناها وخطاباتها وأشكال عملها وطرق كفاحها؛ مع التذكير بأن هذا الأمر لا علاقة له -البتّة- بجلد الذات، ولا بندب الحال التي آلت إليها هذه الثورة المستحيلة واليتيمة والشجاعة.
على صعيد الكيانات، بدا واضحًا أن هذه الثورة لم تنجح في تأسيس كيان سياسي جامع، بالمعنى الجبهوي، يضم مختلف الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية الفاعلة في الثورة السورية، إذ لم ينجح لا المجلس الوطني، ولا الائتلاف الوطني في تمثّل ذلك؛ بسبب ضعف المكونات المنضوية فيه، وقلّة خبرتها، وحداثة تجربتها، ومحدوديّة تمثيلها، وهذا كله جعل من هذين الكيانين مجرد إطارات شكلية، وقليلة الفاعلية، ومحدودة الدور، فضلًا عن الفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين، في الداخل والخارج. أيضًا، لم تنجح هذه الثورة في تصدير حزب أو قوة أو تيار سياسي يُعتد به، لا يميني ولا يساري، لا ليبرالي ولا قومي، لا ديني ولا علماني، لا عسكري ولا مدني، وهذه معضلة كبيرة للثورة السورية فاقم منها خروج الشعب من معادلات الصراع ضد النظام، بسبب الحصار المفروض على البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، وبسبب تشريد حوالي نصف السوريين، وهو الأمر الذي لم يدخل تمامًا في إدراكات المعارضة، لذا؛ لا يبدو، حتى الآن، أنها تنبهت إلى مخاطره سواء عليها أو على مجتمع السوريين.
القصد -هنا- أن السوريين مازالوا بحاجة ماسة إلى كيان سياسي جبهوي، وبحاجة لتوضيح أو بلورة كياناتهم وتياراتهم السياسية بجميع ألوانها أو تعبيراتها أو خلفياتها الأيدلوجية، على أن تدرك، أو تتأسس، كل هذه الكيانات على أساس التصدي لمهمات الثورة الوطنية الديمقراطية، بأن تشتغل مع بعضها بعضًا بطريقة تعاضدية وتكاملية، وليس بطريقة تنافسية وضدية، أي بالقبول بالتنوع واحترام التعددية؛ وهو ما أوضحته أو ما حاولت شرحه في مادة سابقة -هنا- قبل أسبوعين.
ناحية ثانية تقتضيها تلك المراجعة، وتتعلق بالعمل المسلح، إذ اتضح في المآلات أن هذا العمل محدود الأفق، وأنه غير مسموح للسوريين أن يحقّقوا الغلبة على النظام بالوسائل العسكرية، أولًا، لمحدودية قدراتهم، وثانيًا، لأن المجتمع الدولي لا يسمح بذلك حتى الآن، على الرغم من مئات الوف الضحايا، وملايين المشردين. وثالثًا، لأن ثمة دولة كبيرة بحجم روسيا تقف بجميع قواتها، وأساطيلها البحرية والبرية، وصواريخها عابرة القارات، مع النظام.
المسألة -هنا- لا تتعلق بالمزايدات ولا بالعواطف، وإنما تتعلق بنظرة عقلانية وموضوعية للأمور، فمن المفهوم أن النظام لن يسقط بالمناشدات ولا بالبيانات ولا بالشعارات، ولا بمجرد المظاهرات، ولكنه كما تبين، أيضًا، لن يسقط بمعركة كلاشينكوفات وهاونات، بل إن هذه سهلت على النظام، أو بررت له ولروسيا، البطش بالسوريين والإمعان فيهم قتلًا وتدميرًا.
المعنى أن على الثورة السورية أن تجد الطرق النضالية الملائمة لها، أولًا، بترشيد العمل المسلح، ووضع استراتيجية واضحة ومناسبة له، تتماشى مع إمكانات السوريين وأوضاعهم. وثانيًا، بتفويت محاولات النظام تشريد السوريين، بتمكينهم من البقاء والصمود في أراضيهم، بدلًا من تخفيف العبء عنه بتحريره من البيئات الحاضنة للثورة، وتمكينه من محاصرتها والبطش بها وتشريد سكانها. وثالثًا، بإيجاد تقاطعات سياسية ملائمة مع المجتمع الدولي، تعزز صدقية الثورة، وتمكن من وضع حد للقتل والتدمير في سورية، وإطلاق المجال أمام التغيير السياسي.
وفي نقاش العمل المسلح، لا ينبغي أن يفوتنا أن هذا الشكل فضلًا عن عقمه، كما تبدى في الحالة السورية، فإنه يضع الثورة في خانة الارتهان لهذا النظام أو ذاك، فالعمل المسلح يحتاج إلى موارد مالية كبيرة، كما يحتاج إلى مصادر سلاح وذخيرة وتسهيلات لوجستية، وهذه كلها تفترض وجود دول عدة، لكن هذه الدول لا تشتغل كجمعيات خيرية، أي أنها ستحاول التأثير في الثورة، وفرض أجنداتها عليها، وربما توظيفها في خدمتها؛ ما يضر بثورة السوريين، وبشعب سورية، وهو ما حصل.
الناحية الثالثة، التي يمكن الحديث عنها هنا، كمجال ضروري للمراجعة، هي أن الثورة السورية لا يمكن أن تكون إلا ثورة السوريين بكل طيفهم ومكوناتهم وانتماءاتهم الإثنية والطائفية والأيديولوجية، أي لا يمكن هنا الحديث احتكار أو وصاية أو أبوية، من جهة على جهات أخرى، كما لا يمكن الحديث عن ثورة طبقية، ولا عن ثورة سنية، ولا عن ثورة علمانية أو دينية، وحسب، فهذه ثورة جميع السوريين، الذين تجمعهم قيم عليا من مثل: الحرية والمساواة والمواطنة والكرامة والعدالة.
في الواقع، فإن هذا الخطاب هو الذي يجمع السوريين، ولا يفرقهم، وهو الذي يُنمّي ثقتهم بثورتهم، بدل أن يثير مخاوفهم منها، وهو الذي يضع حدًا للخطابات الأحادية الإقصائية الفئوية والأيديولوجية والهوياتية والطائفية والدينية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق