سورية الآن

ماذا سيفعل الأسد بـ «انتصاره» في حلب؟

أصبحت للعرب قضايا «فلسطينية» ثلاث، فلسطين والعراق وسورية، وربما يستزيدون لاحقًا. هي «فلسطينية» بمختلف الأبعاد التي مثّلتها تلك التي وسموها لزمن طويل «القضية المركزية»، ولم تعد كذلك، لأن الدول التي دافعت عن مركزيتها أصبحت هي نفسها إمّا قلقة على مستقبلها، أو مأزومة، أو آيلة إلى التفتت والتقسيم. وهي قضايا «فلسطينية» لأن شعبَي سورية والعراق مرّا ويمرّان بما عاناه الشعب الفلسطيني وكابده من مجازر وتشريد وعذابات ومهانة، بل من محاولات لإبادة وجوده. تلك مآسٍ كان يُفترض ألا تتكرّر وألا يُسمح بتكرارها، وكان فيها عدوٌ غريب لا يزال المجتمع الدولي يعتبره محتلًا استولى على الأرض بالقوّة لكن الرعاية الأميركية سهّلت للبغي الإسرائيلي مواصلة سرقة الأرض وإقامة كيان بكل المواصفات العنصرية (الأباتاردية). وما يبدو الآن أن تجربة إسرائيل استطاعت أولًا تلقين نظامَي سورية والعراق أساليب ممارسة الوحشية والهمجية، وتحوّلت ثانيًا إلى إرهاصٍ يمهّد لاختراق إيران هذين البلدَين عبر تصنيع «الأعداء الداخليين»، وما لبثت التجربة الإيرانية أن تفوّقت على الإسرائيلية بكونها غزت العراق برعاية أميركية وشرّعت غزوها لسورية برعاية روسية.

ماذا بعد حلب في سورية، وماذا بعد الموصل – أو بعد «داعش» – في العراق؟ السؤالان مطروحان من دون إجابات واضحة. لكن انتهاء المعركتَين، بالتزامن مع انتخاب دونالد ترامب واعتزامه «التعاون» مع فلاديمير بوتين، يعني أن موسم «تقاسم المصالح» اقترب أكثر فأكثر، وأن ترجمته على الأرض ستكون معنيّة بميزان القوى لا بحقوق الشعوب وطموحاتها ومستقبلها. اذا كان لسورية والعراق أي معنى تاريخي أو اجتماعي أو ثقافي لشعبيهما فإن القوى الخارجية اختزلته بالإرهاب، بـ «داعش»، ولم يعد الغرب معنيًّا بمجمل المشرق. فمن جهة اختصر ترامب موقفه من سورية بأنه أولًا لا يريد مواجهة مع روسيا، وثانيًا لا يريد دعم معارضة لا يعرفها، ومن جهة أخرى يُشهر فرنسوا فيون شعار «حماية مسيحيي المشرق» ليبرّر استعداده للتعامل مع بوتين وبشار الأسد وملالي طهران. وبكلامٍ أوضح فإن هذه الذرائع لا تشكّل سوى توليفة لتغطية أخطاء الغزو الأميركي للعراق والفشل في التصدّي للتمدّد الإيراني ثم التدخّل الروسي. ولعل الأخطر في هذه التوليفة أنها لا تعكس فقط تحوّلًا جذريًا مقلقًا في التعامل مع الأزمتين السورية والعراقية، وأمكن تلمّس بداياته مع إدارة باراك أوباما، بل أيضًا في المعايير المبدئية للسياسة الدولية في عالم ترامب – بوتين.

كانت محنة مسيحيي العراق بدأت واشتدّت على نحوٍ خطير خلال الوجود الأميركي وبانتهاكاتٍ من حلفائه المحليين ثم بلغت ذروة مأسويتها حين بادرهم «داعش» بضغوطه الهمجية. أما مسيحيو سورية فعانوا من «شبّيحة» الأسد وإنْ لم يحاربوه ومن فوضى المعارضة التي يساندونها ولا شك أن صعود اسلامويتها أقلقهم، ثم وجدوا مستقبلهم مهدّدًا بإرهاب «داعش» وما بعده، أي أنهم فقدوا الشعور بإمكان العيش بأمانٍ في بلدهم. لكن الغرب لم يحاول حماية المسيحيين ولم يقدّم لهم لقاء تخاذله سوى تسهيلات لهجرتهم، كما فعل سابقًا بالنسبة الى الفلسطينيين ليس بدافع إنساني بل لأن انتشارهم في الشتات يكمل دعّم وجود اسرائيل وأمنها كهدفٍ رئيسي للاستراتيجية الغربية. لكن استخدام مسألة حماية المسيحيين، كواجب ديني غربي، لإضفاء مشروعية على التعاون مع بوتين والأسد وملالي إيران، ليس سوى «شرعنة» لجرائم الحرب والمجازر والسلاح الكيماوي، وإعفاء مسبق للمجرمين من أي محاسبة أو عقاب، بمقدار ما هو تجاهل لنحو مليون ونصف المليون سوري بين قتيل ومعوّق ومصاب ومفقود ولأكثر من ستة ملايين لاجئ تكافح أوروبا لوضع الحواجز أمامهم ويشبّههم دونالد ترامب الابن بـ «السكاكر المسمومة».
عدا الرمزية الشخصية وظروف التجربة ومغازيها داخليًا وخارجيًا، فإن الفارق بين فيديل كاسترو وبشار الأسد هو بالتأكيد في عدد الضحايا والهاربين من استبدادهما. ولا شك في أن المقارنة تظلم الزعيم الكوبي الذي توفي قبل أيام بالنظر الى الحصيلة السوداء القياسية التي لا يزال رئيس النظام السوري يراكمها. وإذ اعتبر ترامب ان كاسترو كان «ديكتاتورًا وحشيًا قمع شعبه» مختصرًا إرثه بـ «فرق الإعدام والسرقة والمعاناة التي لا يمكن تصوّرها والفقر والحرمان من الحقوق الأساسية للإنسان»، فإن نعيَه العدائي لديكتاتور راحل لا يستقيم مع نقد ناعم لديكتاتور لا يزال حيًا بـ «إرث» أكثر هولًا، ولا مع استعداد للتعاون مع روسيا لدعمه. وهذا الديكتاتور يستعد لإعلان انتصاره في حلب.

أي «انتصار» للأسد لا ينفي، بل يؤكّد، فشله منذ اليوم الأول في تفادي الكارثة، وفشله كحاكم ومسؤول في الحفاظ على سورية وشعبها وسيادتها، وبالتالي نجاحه في اجتذاب الإرهابيين وإفلات «شبّيحته» وحلفائه لتدمير البلد واقتصاده ومستقبله. فماذا يريد من هذا الانتصار وماذا سيفعل به؟ الأكيد أنه لا يرغب في سماع شيء عن إصلاح أو «انتقال» سياسيين، فحتى المعارضون الذين لم يشاركوا في أي عمل عسكري ولاذوا بـ «منصّات» أو مظلات موسكو والقاهرة والأستانة واللاذقية وحميميم، ويريدون الآن عقد مؤتمر في دمشق أو في مطارها لـ «فتح مسار حوار سوري داخلي»، غير مرغوب فيهم، ولا يستطيع الروس ضمان أمنهم لا شفهيًا ولا خطيًّا. لماذا؟ لأن النظام يخشى حوارًا كهذا ولو أراده لما أحبط محاولةً دعا إليها هو نفسه، ثم لأن المعارضين في نظره نوعان: إمّا أنهم إرهابيون، أو لا يمثّلون أحدًا بمن فيهم الأحزاب التي طلبت أجهزته إنشاءها. لكن الأهمّ أن هؤلاء المعارضين المتنادين للقاء تحدّثوا، في مختلف وثائقهم بالغة التنقيح والتعقيم، عن «إصلاح النظام» وأجهزته وسلوكه، وعن استعداد للتحاور والعمل. بل إن ارتياح موسكو ودعمها لمبادرتهم يثيران ارتياب الأسد وحلفائه الإيرانيين الذين بادروا إلى تسريب التحضيرات «السرّية» لـ «المؤتمر» كي تتمكّن بثينة شعبان من نفي «أي وجود» لهذا المؤتمر.

طالما أن النظام يشعر بأنه يقترب من «الانتصار» في حلب بحسم عسكري يعود الفضل فيه للروس والإيرانيين فإنه لا يتوقّع من المعارضين سوى الاستسلام ولا يرى داعيًا لأي تفاوضٍ أو حوار معهم. لكن ماذا سيفعل الأسد بـ «انتصاره»؟ هل يفكّر مثلًا في إعادة النازحين واللاجئين والمهجّرين إلى بيوتهم ومواطنهم؟ هناك «حزب الله» الحليف اللبناني – الإيراني للأسد شارك في اقتلاع السكان، وحليف لبناني آخر هو حزب الرئيس ميشال عون لا يكلّ من المطالبة بإعادة نحو مليون نازح، لكن الأسد وحليفه الإيراني ماضون في هندسة التغيير الديموغرافي، وهو أبدى أخيرًا في لقاء صحافي ارتياحه لـ «لتركيبة الاجتماعية» الحالية بعد تجويع داريا وإخلائها. أقرب ما يمكن توقّعه أن يقلّد النظام إسرائيل التي تضطرّ السلطة الفلسطينية للتفاوض معها على «عودة» أو مجرّد «دخول» أي فلسطيني، وقد تقبل أو ترفض.

لكن هل يعني «الانتصار» نهاية الصراع؟ كرّر الأسد انه سيستعيد السيطرة على كل سورية، وهذا قرار يملكه الروس ويتطلّب موافقتهم على تدمير المزيد من المناطق وتهجير ملايين السكان واستيراد ملايين الشيعة لملء الشغور. ولعل أهمّ الشروط أن تكون هناك دولة قادرة على إدارة هذه «السيطرة»، والحال أن المناطق التي كانت ولا تزال في قبضة النظام ولم تشهد قتالًا تديرها حاليًا ميليشيات بمثابة عصابات. فالنظام الذي يتهافت عسكره لتقاسم المناطق المستباحة كغنائم يكون قد فَقد «مفهوم الدولة» ولا يستطيع إعادته ولا حتى إعادة الدولة نفسها كما كانت، بل لا يكون قادرًا على التعاطي مع أي شيء يمكن أن يسمى «حلًا سياسيًا» ولو تجاوزًا. وبالطبع لا مجال للحديث عن إعادة الإعمار التي كان الروس أول من أنذره بأنهم غير معنيين بتمويلها، وليس في الوارد أن يساهم الاتحاد الأوروبي أو أي دولة خليجية أو حتى الصين التي يهمّها أن تتأكّد أولًا من وجود حدٍّ أدنى من الاستقرار. فالكلّ مدرك أن وجود الأسد يعني استمرار الحرب.

(*) كاتب لبناني

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق