لا تفتقر ساحة النشر العالمية إلى نصوص وكتبٍ ودراساتٍ -بلغات مختلفة- حول ظاهرة الربيع العربي؛ فالمتابع للإصدارات العالمية -في هذا الخصوص- سيلحظ أنّ صناعةً -بأكملها- باتت مكرّسةً لرصد هذه الظاهرة من منظورات مختلفة، سواء على مستوى النشر الأكاديمي، أو على مستوى النشر التجاري، ما أتاحَ وفرةً في النصوص التي وُضِعَت في متناول القارئ والباحث المهتمّ، وإذا كانت بعض المؤلّفات قد امتازت بعمق الرؤية والتحليل العلميّ الرصّين، فإنّ قدرًا كبيرًا من مؤلفات أخرى قد شابته نوازع شتّى، بدءًا بالأيديولوجيا، وليس انتهاءً بالغرَضيّة والانحياز في التناول، كما أنّ بعضها الآخر قد جاء تلبيةً لحاجةٍ تجاريّةٍ صرفة، همّها البيع انطلاقًا من الإمكانيات التسويقية التي تلفُّ العنوان السوريّ.
في كتابه الصادر عن منشورات جامعة كاليفورنيا، والذي جاء بعنوان «الشّعب يريد« (تحليل جوهري للانتفاضات العربية)، يقدّم جلبير الأشقر، بروفيسور دراسات التنمية والعلاقات الدولية في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن (SOAS)، قراءة نقدية عميقة وشاملة لظاهرة الربيع العربي تتحدّى السرديّات المهيمنة -غربيًّا- في قراءة هذه الظاهرة. ويقع الكتاب في 382 صفحة، وصدرت ترجمته العربية عن دار الساقي عام 2013.
إنّ أبرز ما يميّز قراءة الأشقر هو تركيزه على حالة الاختلال الاجتماعي البنيويّة في المجتمعات العربية؛ إلى جانب تركيزه على تحليل هياكل الاقتصاد السياسي في هذه المجتمعات، وخلافًا لكثير من القراءات التي مرّت -بعجالة- على هاتين المسألتين، فإنّ جلبير الأشقر يذهب في تحليل مفصّل ومطوّل لعرض الخلفيات الاجتماعية-الاقتصادية التي طبعت مجتمعات الربيع العربي، وارتباطها الوثيق بانتفاضاتها الأخيرة.
في توطئته لموضوع الكتاب، يقول الأشقر: إنّ بالإمكان اختصار وصف حالة اقتصادات بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بكلمات ثلاث، هي: “الفقر” و”عدم المساواة” و”عدم الاستقرار”، كما يضيف الكاتب قائلًا :”إنّ البلدان العربية تواجه أعتى الأزمات التنموية من بين كافة بلدان العالم الثالث”.
في الفصلين: الأول والثاني، يناقش الكتاب هذه الأزمة من خلال نظرة عميقة لهياكل الاقتصاديات السياسية في العالم العربي، مركّزًا على التحديات التنموية التي تواجهها المنطقة والأعباء الملقاة على عاتقها، لجهة فرص العمل والنمو الاقتصادي ومعيقاته؛ كالفقر وتباين الدخل بين فئات المجتمع والتحديات الديموغرافية وغيرها من “الصّيغ الغرائبية” لبعض الاقتصاديات الرأسمالية العربية، كـ”النيوليبرالية النّهبويّة” و”الرّيعيّة المَنجَميّة” و”رأسمالية المحسوبية”، وبحسب ما يبيّن المؤلّف (وفق أدوات تحليلٍ ماركسية تستند إلى إحصائيات متنوعة)، فقد ساهمت هذه الخلطات -الاقتصادية والسياسية العجيبة- في فرضِ سياساتٍ نيوليبراليةً قاسية، نتجت عن انحسار استثمارات الدولة، وتراجع الاستثمار الخارجي، وأدّت في ما أدّت، إلى صعود نخبة باتريمونالية (وهي شكل من أشكال الحكم، يُتعامل فيه امع الدولة على أنها امتداد طبيعي للعائلة)، وقد تسبّب ذلك -بحسب ما يرى الأشقر- إلى تقويض الأسس الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم عليها الأنظمة الاستبدادية العربية، تزامنًا مع طفرة النمو السكاني، 1970 إلى 1990، وهي الأعلى في الدول النامية، وكذلك ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقةٍ، ويصعُب تحمّلُها. هذه الأسباب جعلت من مسألة “الانفجار الثوري” أمرًا حتميًا -كما يقول الكاتب- الذي يعدّ أنّ لحظة الانفجار نضجت منذ العام 2000، أي: قبل عقدٍ من انطلاقة الربيع العربي.
وفي قراءته الماركسية لظاهرة الربيع العربي، يرى جلبير الأشقر أن شروط الحالة الثورية -كما حددها لينين- قد توفّرَت -وإن بمستويات متفاوتة- في معظم البلدان العربية، إذْ وصلت مستويات “الظلم الاجتماعي والاقتصادي” إلى مستوياتٍ غير مسبوقة؛ بحيث أصبح من المستحيل على الطبقات الحاكمة الاستمرار في هيمنتها وفق الشروط القائمة، فقد بات التغيير مسألة محتّمة، كما أنّ “النشاط الجماهيري” أصبح أكثر فاعلية بدعم تكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي، ودورها المتعاظم في المجتمعات العربية.
غير أنّ الأشقر ربما يستطرد في السردية اليسارية التقليدية الممثّلة في معاداة الإمبريالية، وذلك على حساب تحليله التاريخي والاجتماعي العميق الذي يظهر في متن الكتاب. ويتجلّى ذلك في مواضع يبالغ فيها في تقدير حجم الدور الذي لعبته السياسة الإقليمية والدولية في بداية الربيع العربيّ، فهو يرى -كماركسيّ- أن الغول الإمبريالي، ممثلًا بالولايات المتحدة الأميركية وحلفائها (قطر والسعودية) على نحو خاص، هم من طلبوا من الرئيس التونسي زين العابدين بن عليّ أن يتنحّى، كما أنّه يذهب أبعد من ذلك إلى عدّ فوز حركة النهضة الإسلامية في انتخابات تونس، جاء بدعم وترحيب من هذه القوى، على الرغم من أنّه لا يقدّم أدلّةً وتفاصيل ملموسةً على ادّعائه هذا، كما تبرز النّزعة اليسارية لدى الأشقر في قراءته للحركات الإسلامية في سياق الربيع العربي؛ إذ إنّه يرى فيها أدوات تحرّكها أطراف خارجية، تأتي دول الخليج العربي في طليعتها. ويخصّص الكاتب فصلًا كاملًا في الكتاب بعنوان “لاعبو الثورة ومتغيّراتها”، يرى فيه أنّ وصول من يسمّيهم بـ “تجّار أفيون الشعوب” إلى الحكم، هو مسألة انتقالية لن تستمر طويلًا؛ مستشهدًا بالتجربة الأوروبية، إذ استغرق الأمر وقتًا لا بأس به “حتى أنجزت المجتمعات الأوروبية نفورها من حكم الثيوقراطيات الدينية”. ولأن الكتاب كان قد صدر عام 2013 فإنّ المؤلف لا يعرض للتناقض بين الدورين السعودي والقطري، على سبيل المثال.
ويقع الكتاب في مطبٍّ آخر، قد يُعزى إلى هيمنة السردية اليسارية، ويُضمِرُ قراءة تشوبها الدّوغمائية، إذ يرى الأشقر بأنّ التيارات اليسارية (في مصر وتونس على وجه الخصوص) تعرّضت لخيانةٍ من الإسلاميين وبعض المكونات الثورية الأخرى، إلاّ أنّ الوقائع اللاحقة -في مصر على الأقل- أثبتت خلاف ذلك تمامًا، إذ انحاز اليسار المصريّ وتياراته “التقدميّة” إلى السلطات الانقلابية ضدّ حكومة الإسلاميين المنتَخَبة.
على أنّه من الإنصاف القول بأنّ الأشقر يعارض على نحوٍ صريح سردية اليسار المنحاز إلى النظام السوري، بوصفه نظامًا “ممانعا” و”مقاوما للإمبريالية”؛ فيبيّن الطبيعة المتوحشّة لهذا النظام، ويذهب إلى حدّ عدّ أنه سيصعب الإطاحة به من دون الدخول في أتون حربٍ أهلية. وينتقد الأشقر انتقادًا واضحًا موقف اليسار الراديكالي الداعم لنظام الأسد، ويرى بأنّ هؤلاء متأثرون بتراث عقود طويلة من الحرب الباردة، جرى خلالها إعطاء الأولوية للعداء للإمبريالية ولأميركا على حساب كل شيء آخر، وبمعزل عن القيم الإنسانية.
أمّا عن الثورة السورية، فإنّ الكاتب يبرِزُ الدوافع الاقتصادية التي أدّت -بحسب رأيه- إلى تشكّلِ كرة الثلج التي أدّت إلى “الانفجار الثوريّ”، ويوضح الكاتب بأنّ تحالف رأس المال مع السلطة الأمنية خلقَ طبقةً اقتصادية واجتماعية جديدة، راكمت ثرواتٍ فاحشة بتحالفها مع “بورجوازية السوق”، وكان لآل الأسد وأقربائهم من آل مخلوف نصيب الأسد في هذه “الصيغة العجائبيّة” من اقتصاد السوق. فقد قُدِّرَت ثروة ابن خال الرئيس -رامي مخلوف- بما يقارب 6 مليارات دولار، في حين كانت أحزمة الفقر الزاحفة من الريف تنمو كالفطور على أطراف المدن، نتيجة استشراء الفقر والبطالة؛ إذ أصبح ما نسبته 30 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وتراجع معدل الناتج المحليّ تراجعًا ملحوظًا، وهو الأمر الذي يُفسّر بزوغ الانتفاضة السورية من الحواضن الريفية نحو المراكز المدينية، ومن أحزمة الفقر المحيطة بهذه المدن نحو وسطها. ويخلُص الكاتب، من خلال قراءته لطبيعة النظام في سورية، إلى أنّ نظامًا بهذه البُنية سيتعذّر إطاحته، دون الدخول في أتون حربٍ أهلية طاحنة، كما يؤكّد أنّ دخول المتطرّفين على خطّ الثورة السورية، لا يجب أن يغيّر من قناعتنا في أنّها حركة تحرر أصيلة لشعبٍ يبحث عن العدالة والكرامة.
وفي تصوّره لمستقبل الثورات العربية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، يرى الأشقر بأنّ حقبة الستينيات جاءت بالتنمية مقرونةً بالفساد، أما في الثمانينيات وما بعدها، فقد هيمن الفساد وغابت التنمية، والمخرج الآن برأيه ليس في تبنّي الليبرالية أو النيوليبرالية الاقتصادية، بل في التنمية التي تتعهدها الدولة من دون فساد، ويطالب الكاتب بإعادة المكانة إلى دور الدولة في تحقيق التنمية؛ لكونه يستبعد أيّ اتكال على القطاع الخاص، وذلك لجملة من العوامل التي يناقشها بالتفصيل، لذا؛ فإنّه يشدّد على أنّ القطاع الخاص في البلدان العربية، غير قادر على القيام بمهمة التنمية، بل إن الاعتماد عليه سينتج أزمات أكبر ويعمّق المشكلات الحالية، وبالتالي؛ لا بدّ من دور مركزي للدولة: “على الدولة أن تكون محرك التنمية، إن أردنا الخروج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية”.
تعليق واحد