من المحزنِ أن نتصفحَ حياةَ تلك المرأةِ الهزيلة، المرميّة -على عجلٍ- داخلَ كتبِ التحليلات النفسيّة والتاريخيّة والدينيّة، حزنٌ يُشبه جسدها -عاريًا- على صفحةِ غلافِ إحدى المجلات.
هل هذا جفاف عين النبع صوب الضوء؟
هل انتهى الفيءُ من هذا العالم؟
باشلار كتبَ عن رغبته في تأنيث العالم، وقبلهُ بقرونٍ طويلةٍ، ردَّ ابن رشد عُقمَ المجتمعِ وتدهوره إلى ضعفِ مكانة المرأة وانعدام دورها.
من المُبكي -حقًا- فكرةُ النضال من أجل ما كان لهنَّ؛ الخبزُ، الرقصُ الشغفُ، الاكتشافُ، البيوت، القمح والحريّة… كلّ الإنجازات التي سَعَت وقَاتلت لتَنَالها امرأةُ اليوم، ليست إلاّ اعتذارًا منها، عن الماضي السحيقِ كله، الذي كانت فيه إلهًة؛ أرضًا وشجرًة.
جعلوا من الطبيعة مسلسلًا مملًا، جلسوا يُشرِّحون الجسد والصدمات والعذابات التي مرّت بها، ليس تعاطفًا؛ بل لمزيٍد من النكرانِ والإنكار، من التملّك والسجونِ الجديدة.
لكنّ هذا السؤال يبدو فاترًا اليومَ وبسيطًا؛ وحتى ساذجًا، إذ كيف أسألُ -بعد تاريخ المرأة الكاملِ والحافل والغنيّ- عن عنوانها الآن؟ كيف أُعاتبها؟ ومن ثمّ أبررُ ضعفَها، استكانتَها وخوفَها!! بينما نقلّب أوراق الروزنامة الآن؛ في القرن الواحد والعشرين.
يحدث أن تتعقّد وتتشعب خطوات التاريخ، فالمُعطيات هي ذاتها، لو جَثَت على مفردات مزخرفة. من الغريبٌ أنّها لا تمشي ولا تُغير جلدها ولا تحنُّ إلى ذاك الهواء. العنفُ قديمٌ أيضًا، لكنه تغير؛ وهي مازالت في مكانها. لقد انقلبَ من الألفة الواهية التي كان يتأرجحُ فيها بين طرفين فقط: المرأة – الرجل. وكي يصبح عنفًا لطرفٍ واحد فقط، قسّمته الطمأنينة والبارانويا والوهمُ والخوف والاستلاب إلى نصفين، أو عدّوين: المرأة-المرأة.
عنف الطفلة-الدمية
ليس الوأدُ تلك الحفرة التي يجهزونها سلفًا للجنين، الدفنُ الحاليُّ للصراخ إن جاء مؤنّثًا كالأرض، ممارساتٌ حدثت في الماضي، أما تحولاتها -بدءًا من الثورة الفرنسية حتى اليوم- فهي تُغنينا عن الجريمة تلك، لنتصفح تاريخ اليوم فقط ونحسد الوأد وزمانه:
أليسَ المهرُ الموجود حتى يومنا هذا وأد؟
أليست الدمية التي يعطونها للفتاة كي تُشبهها في الصنم وأد؟
أن يبحث الصبي عن ذاته، أن يكتشف مثلًا في تسلّق الشجرة وركوب الدراجة حدثًا هامًا لركبتيه، وعلى الميل الآخر؛ فتاة تتعلم الصمت المطلوب جيدًا للأيام المقبلة، وهي تُحيك الصوف مع أمها. أليس هكذا مشهد سريع شكلًا جديدًا للوأد؟ وأدُ الذات لذاتها وتربيتها على التشيؤ قبل أن تلتفتَ، أن ترى.
البطريرك سنّ شروطه منذُ زمن، والقوانين لديها من يسندها ويعمر لها بيتًا، ويُشعل لها النار شتاًء كي تدفأ. القوانين السجن، المرأة السجان.
الفتاة-البلوغ
العصفور-القفص
أطلقَ فرويد على هذه الفترة النسخة الثانية من الطفولة. فرويد الذي نصح الفتاة بدميٍة -أيضًا- بما أنها لا تمتلك قضيبًا، وكتب تحليلاته المُجحفة حول أحلام ناقصة وعقلٍ ناقص منذ الطفولة.
في هذه الفترة تستبدل الفتاة دميتها بدفتر مذكرات تنقلُ إليه ما يقوله جسدها، بينما يتراشق الصبية الحجارة في النهر. هنا بدأت تتعلم جيدًا أصول المكان والحركة، أين الممنوع لأخاطبه سراً كما فعلت أمي، أين المرغوب لأتقنه أكثر من الكذبِ وأجاهر بحفظه.
العصفور حفظ مكان القفص، الضحيّة وجهًا لوجهٍ أول مرةٍ مع نفسها.
المرأة-المرآة
لعبت المرآة دورًا جنسيًّا ثالثًا في تاريخ الأنثى، بانتقالها من الدميّة الموضوع، إلى المرآةِ الموضوع، في ضبابية وعبوس الذات، هذا سيفسرُ لنا -ولو قليلاً- غزارةَ الدموع وتأليه المعاناة -كلّذة- ومن ثم تبنيّها ونقلِها إلى الأبناء.
نرسيس صار وردةً، المرآة نعمةٌ ونقمة، الكلام الجميل لن يكفي الفتاة طيلة عمرها، فأيُّ رجلٍ ليس باستطاعته أن يتشبّه بالمرآة، لكن الغرق واحد له ذات النتيجة: (الموت داخل الجسد).
كيف يلتقط المغناطيس كلَّ ما في جوف الخوف والنكران من ألم، ويحولّه بغمضةِ عينٍ إلى فتنة، أو سطحٍ تمشي عليه السنون دون أن يمد يده إلى العمق يوماً، لامسًا تلك الأيادي المتصارعة أسفلَ السطح، هذا ما يفعله النوم في المرايا.
بدايةً، أعطوها دميًة كي تنسى عضوها/ الأرض، والآن انتقلنا إلى دميةٍ أخرى: المرآة.
المرأة- الزوجة- الأم
أحلامُ اليقظة، الخيالات، كثرةُ الإيحاء، دورانُ الأسئلة حول الجسد في العتمة، الكثير من إشارات الاستفهام، تبدو جليّةً في أسرار الأم المقفلة بإحكامٍ، عن ابنتها بالدرجة الأولى. فالأم –أيضًا- لم تودع ماضيها أبدًا، لقد ارتدَت وجهَ دميتها، ملامحَ أمها، ووضعت في حقيبتها المفتاح، وها هي بدورها تُدخل ابنتها إلى القفص ذاته.
الفتاة تملأ القفص بالدمى والمرايا والأحكام والأقوال المأثورة، امرأةٌ مليئةُ بالأقفاص، ستكون أمّها وجدّتها وجاراتها وصديقاتها عندما تحب، وسيكون للمولود الجديدِ الكتابَ ذاته.
لكنّها -حتمًا- ستصلُ إلى البداية يومًا ما، إلى النقطة، إلى النبع.
المرأة- المرأة
الضحيةُ غدت لعبةً مثيرةً؛ بل غدت بعد كلِّ هذا مصدر لذّة.
من تحوّل إلى نكوصٍ إلى خوف، إلى ارتداء كذبة تغييرُ كذبة، إلى لوم الأرض، والحقد على التاريخ، وفي كلِّ هذا لذّة، ومعها وحدها –ربما- تستطيع الوصولَ إلى النشوةِ ومتابعة الحياة برفقٍ.
عندما تبكي امرأةٌ أمام رجلٍ، آلاف النسوة يبكين في صوتها. الدموعُ لذّة وذكرياتٌ قديمة. الرجل حَفظ الحزنَ وطريقته وأسبابه وعلاجَه، فهو واحد عندهن، وإن اختلفت النوافذ التي يطلّ منها. واحد نعم ذاك الحزن، لأنهنّ جميعًا ينتمين إلى ذاك الماضي السحيق، لأنهن جميعًا نظرن ذاتَ صباح صوب الشمس وفكرّن بزراعة قمحة.
ومن البديهي ألا تبوحَ المرأة لبنت جنسها بشيء. القفص واحد والمرآة واحدة، والدموع جاءت من الشعاع ذاته.
الفرق أن لعبة “الغميضة” تلك تستطيع أن تتقنها مع الرجل، ولن يراها أبدًا.
المرأة- الأرض
هل ما كان يجري إذًا طقسٌ طارئ نتيجة تغيرات فرضتّها الطبيعة آنذاك؟
كانت إلهة، غيمةٌ حبلى بالمطر، هل سننتظر حروبًا أكثر قساوة ومرارةً من كل الحروب التي دفعت حتى المرأة البرجوازية أثناء الحرب العالمية الثانية إلى العمل، لمّا رأت نفسها وحيدةً بلا زوج، وأهلٍ؟!
قالت: الآن لا وقت للمرايا، في الخارج سأكون ذاتًا وأطعم أطفالي.
الثورة الفرنسيّة التي هزّت العالم، لم تستطع حتى أن تنتبه إلى سبعة آلاف امرأةٍ ثُرن صوب الباستيل، وكانت الحريّة تتدّلى على صدورهنّ كقلادةٍ من المرمر.
في كلِّ مفرقٍ، كل مفصلٍ، كل حضارةٍ، المرأةُ كانت تتفتّح، تتنقلُ مع المياه، تضيءُ اللهبَ وتزرعُ شجرتها رغم كلّ العواصف. ومع هذا أنجبت الثورة الفرنسية القانون المدني، الذي جعل من القرن التاسع عشر، وباءً للمرأة.
لكن الطبيعة لا تكذِّب نفسها أبدًا، حتى لو غيرت البوصلة مسارها، وانحرف المجداف عن غايته، ستصرخ الشجرة وتقول للعالم جملة “سيمون دي بوفوار” في كتابها الجنس الآخر:
“المرأة لا تُولدُ امرأةً إنما تصبح كذلك”
نعم نحن كلّنا ضحايا اللون الزهري، الدمية، الجسد المعتم، الوشوشة عن الحبّ.
المرأة ضد نفسها بالدرجة الأولى، مع أن الحريّة خُلقت بين يديها، ورغم كل ما يُمارسُ ضدّها، انتزعت من الفوضى والضغوط طريقة حياة، وازنت فيها بين ما تحب ويرضاه الجميع، وما تكره ويُجبرها الجميع على فعله، هذا التكيّف والبديهية تخبرنا أكثر عن ذكائها وكيف تستطيع أن تكون محورًا خارج جسدها، في عالم يرغب في وأدها على طريقته.
الفكرة تدور، كما الأرض، أنتظر أن نصل إلى العصر الحجريّ وننتهي من:
الفتاة: هكذا علمتني أمي.
الأم: هذه حكاية ألف سنة مرّت منذ الآن.
وألفُ سنةٍ مرّت تطوي قدميها إلى الوراء، وتلتفت حزينةً إلى الصخور. قبل ملايين السنين، رسم الإنسان المرأة -لأول مرة- بقرون العاج والعظم، رسمها متأملًا جسدها وخصبها، إلى أن اكتشفت ما يشبهها تمامًا وبدأت في نبش التراب وزراعة بذرة.
الاهتزاز يحرك الكامن الباطنيّ المخفيّ، لابد من هزةٍ لكلّ ذاك الركود. أريد ما هو لي عبر كل الحضارات التي مرّت بها البشرية، عندما وقفت جنبًا إلى جنبٍ مع الحريّة، أرفعُ يديّ وأناولُ الإنسانية رشفة ماء.
ربما سأكتبُ بعدها عن الأشياء المثيرة خارج الجسد، ليس عن عنفها تجاه نفسها، تجاه بناتِ جنسها، وانغلاقها في أسطورةٍ كُتبت لها على عجلٍ كما يُكتب عقدُ شراء بيتٍ أو سيارةٍ، وتمّت الصفقة بتبادل الضحكات مع ضحكتها، متوهمًة أنّ التملّكَ حبٌّ والسجن قصرٌ والسيكولوجيا صادقةٌ أكثر من الماضي. ولابد أن أشير هنا إلى مقطع من تلك السيكولوجيا:
“صفات المرأة المسترجلة”: الغضب، المطالبة بالحقوق، الاستقلالية، الصراخ، المبادرة، العيش بلا مرآة، عدم الميل إلى حياة الضحية، الوحدة…
وهناك فصولٌ كُتبت بعنوانٍ واحدٍ فقط، والإشكاليّة -في نظري- ليست فيما كُتبَ ونُشرَ وحُلّلَ في تلك الصفحات، الإشكاليّة كانت وجاءت من العنوان فحسب: سنُّ اليأس.
أما اليأس الحقيقيُّ فهو: المرأة التي لا تندمج، أي التي لا تصير بساطًا لأمنيات الرجل وأفكاره عنها، يحلّق فوقه ثم يرميه متى شاء، نهايتها بيت أهلها، أهلها الذين ستندمج وسطهم بأن تكون ممرضة ومعيلة للعائلة؛ تتلقى الشتائم أحيانًا والتمنّن عليها أحيانًا أخرى، بعدها ستلجأ إلى غرفتها إلى جسدها، وحدتها، مرآتها، وهناك تصنع الضحيّة منها مجددًا امرأةً أخرى، ستبحث عن وجهها عمرًا كاملًا ولن تجده بعد كل ذاك البكاء.
اليأسُ الحقيقيُّ هو أن يكونَ الدفاعُ عن النفس ضدَّ التحرّش، يُفقد المرأةَ أنوثتها! تخيّلوا أنهم في مصر حتى الآن، لا يناقشون التحرش كفعلٍ مجرمٍ وحشيٍّ علنيٍّ في المجتمع، بقدرِ ما يتوسلون للمرأة أن تشكو، أن تعبرَ، أن تصرخَ! كيف ستصرخُ وهي من لَعِب بالدمية وكانت تتخيلُ فقط؟!
دعونا -أولًا- نكسِّرُ الأنموذجَ المذهّب المحفور في دماغها عن فكرة الأنثى، عن ذاتها، بعدها ستصرخُ في وجه هذا العالم إن لَمَحت ظلًّا يرقَبُها.
بعد كل ما مضى، من المشاع والإقطاع والبرجوازيّة والثورات والحروب والرأسمالية والحداثة، أنتِ وحيدةٌ الآن، لا تنتظري أن يقودَك أحدهم إلى النبع، وبما أن العنف كَبُر وتحولَ وصرتِ ذاتًا ضد ذاتها، ربما نكون قد وصلنا إلى نهاية المسرحية، وبداية ثورة جديدة.
يقول نيتشه:
سعادةُ الرجل هي: أنا أريد
سعادة المرأة هي: هو يريد
الرجل للحرب والمرأةُ لرعاية المحاربين والتخفيف عنهم.
لكن، عزيزي نيتشه… بانتظار تلك الأمازونة، حروبٌ أكثر ضراوةً وشدّةً وبؤسًا من حروب الرجال التي تفتك بالجميع، الثورة المقبلة هي ثورة ليليت وهي تغني: (يا ليل يا عين)، ثورة تشبه زنزانة أوليمب دي غوج، التي كتبت عن المقصلة كحقٍّ من حقوق المرأة، شرط أن تَصلح لها، ثورةٌ كبداية الأرض من تلك الخلايا الدقيقة جدًّا في قاع الماء.