مقالات الرأي

ثقافة التسلط عند المتجنسين في الفضاء الإداري الغربي

أذكر أني كنت شاهدًا على حادثة أدهشتني وأقلقتني، منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما صاحبت أحد معارفي إلى مقر لتوقيع بيانات تسليم غلال الحبوب، وكان يُدرك أنه يجب أن يُقدّم رشوة للموظف؛ لئلا يتسبب له بالضرر أو التأخير، وضع مبلغًا نقديًا بين الأوراق؛ لئلا يلفت الأنظار إليه وهو يرشو ذلك الموظف. استشاط الموظف غضبًا، وصرخ بأعلى صوته: لماذا تدس المال بين الأوراق، أعطني إياه بدون خجل، إنها مجرد رشوة، وليست سرقة أو (شحادة). وعاقبه بأن أرجعه إلى آخر الطابور، فما كان من البقية إلا أن أخرجوا الرشاوى ودفعوها علنًا، والموظف (المسنود بكل تأكيد) يقبضها وهو يضحك. لم تمر هذه الرشاوى بدون عقاب، إذ رُقّي ذلك الموظف إلى منصب إداري أعلى، ليقبض حصة أكبر من الموظفين الذين يرتشون وهم خائفون.

لا يمكن لهذه المجاهرة أن تفرز سوى مزيد من الفساد العام، وبالتالي؛ نشر مزيد من البؤس، والتفاوت الفظيع بين الموارد المالية. وتحويل الوظيفة من طابع تنظيمي إلى شكل معقد من أشكال الفوضى عسيرة الحل. بكل تأكيد، إن هذه التحولات لا تأتي إلا في سياق منهجي لأنظمة تدرك أن هيمنتها تقوم على خلق طبقات نفعية، ذات مصادر دخل مشبوهة، فتعتاد على وفرة متمايزة عن البؤس العام، وتنخرط -بكل ضراوة- في الدفاع عن تسلط وفساد السلطة.

ولكن؛ لكي ندرك الصورة الكلية لا بد من الإقرار بأن للثقافة العامة في المجتمع دورها في قابلية الفساد، فالمؤسسات الإدارية تأخذ سمتها الوظيفية من طبيعة النظام السياسي الذي يحكم المجتمع، إضافة إلى أبعاد ثقافية مؤثرة تأثيرًا فاعلًا، تستند في مجملها إلى الرؤية العامة لهذه الثقافة وتعريفاتها العملية للإنسان والإدارة والحقوق، وقابلية أدواتها للتطور أو الجمود. فالوظائف الإدارية بقيت ذات طبيعة مناصبية في كل المجتمعات البشرية، وذلك؛ وفقًا لمعايير مختلفة تتراوح بين التخصص والخبرة من جهة، والمحسوبية والاستخدام الفاسد من جهة ثانية.

في فضاء شرق الأوسط (على الرغم من كراهيتي لهذا المصطلح الذي يعمي المعنى، بدلًا من تجليته)، ثمّة نظم استبدادية مهيمنة في كل مكان، مع اختلافها شكليًا أو إجرائيًا، واختلافها أيضًا في الشدة والعنف. تتخذ الوظيفة أبعادًا أخرى غير تلك المناطة بها، فهي بداية تمثل استشعارًا أمنيًا رقابيًا، وتمثل ايضًا إطارًا عقابيًا، وخاصة عندما ترتبط بموافقات من مؤسسات أخرى ذات طابع أمني أو سياسي، ومن ثم؛ إذا تفرغت من هاتين الوظيفتين تفرغت لوظيفتها الثالثة، وهي البحث عن مسوغات التعطيل والتأخير، بخلق تأويلات وعرقلات شبه قانونية، أو التركيز على ثغرات معينة قد لا تكون في الأصل ثغرات. وهي لا تعير معرفة أصحاب الطلبات أو المراجعين أي قيمة، لأن الموظف -في حد ذاته- هو المرجع، وليست القوانين والإجراءات الإدارية. وبالمحصلة، وعلى الرغم من المشهد الفاقع والعلني، لا تقر الأنظمة الحاكمة علنًا بفسادها وتسلطها، إنما تزعم العكس تمامًا.

في الفضاء الغربي، تُقرّ الأنظمة بعللها البيروقراطية، لكنها أسست طابعًا وظيفيًا عامًا يرتكن إلى الخبرة والتخصص، ويهدف بوضوح إلى تسيير الحياة بأوجهها المتعددة، فالوظيفة على الرغم من بعض تعقيداتها وإجراءاتها الدقيقة لا تنفك عن دورها في تنظيم النشاط المجتمعي، على اختلافها. وإن كانت لا تخلو من الفساد تمامًا، فساد صغير نسبيًا، مخفي ومطارد تحت طائلة المسؤولية، وفساد أكبر بكثير ذو طبيعة مافياوية يؤثر في الاتجاهات والسياسية والقرارات التنظيمية والضريبية. لكن المجتمعات الغربية -عمومًا- تسيّر أعمالها بعيدًا عن التعطيل المفتعل.

ولكي نكون منصفين في قراءتنا، يجب الإقرار أن الفساد الإداري -في حد ذاته- ليس نتاجًا خالصًا لسلطة فاسدة، إنما -أيضًا- تساهم فيه ثقافة الإدارة من خلال بعدها المناصبي أو التسلطي. وحتى على مستوى المؤسسات الخاصة، وغير الخاضعة للإملاءات الحكومية، ثمة ممارسات إدارية مجحفة ومتسلطة. وخاصة عندما تكون البطالة ظاهرة واسعة الانتشار ومتصاعدة، دون أن يحظى العاطلون بأي مصادر للدخل أو معونات أو مؤسسات تعمل على تشغيلهم.

ولكي نُدرك أكثر هذا البعد الثقافي، نجد أن الموظف أو المهني (الغربي)، الذي يعمل في مجتمعات استبدادية، غالبًا ما يقوم بوظيفته وفق الثقافة التي نشأ عليها، فهو لا يعمل إلا لوجود رواتب عالية تغنيه عن اللجوء إلى الفساد. ويُمارس وظيفته في إطار تسهيل الإجراءات. بينما الموظف أو المهني القادم من مجتمعات تُعاني التسلط والفساد، يسعى ما استطاع إلى تعطيل الإجراءات، حتى وإن كانت القوانين الرقابية لا تسمح له بالاستفادة من هذا التعطيل ماديًا، لأن ثمة أمر آخر يرتقي إلى درجة المردود، يدفعه إلى تبني مفهومات وممارسات الإدارة الفاسدة، وهذا الأمر يتمثل في الإحساس بالسلطة، والقدرة على التحكم والسيطرة، إذ لا يستطيع أن يرتقي بفهمه للوظيفة، إنما يُمارس هذا الفهم السيئ ما وسعه الأمر. وخاصة مع الشرائح التي تجهل حقوقها، وهذا الأمر بالغ الوضوح في المرحلة الراهنة، وخاصة في ظل عمليات التهجير الديموغرافي، فمعظم المهاجرين واللاجئين يتعرضون إلى إجحاف وظلم شديدين على يد موظفين متجنسين، بعضهم من الجيل الثاني أو الثالت في مجتمعات الهجرة واللجوء. وهو الأمر الذي لا يشعرون به مع الموظفين الذين هم من السكان الأصليين للبلاد؛ لأن سكان البلاد، وإن خالطت سلوكياتهم بعض الإشارات الاستعلائية، يقومون بوظائفهم بدقة. ولا يسعون إلى أي أهمية مبنية على التحكم بالقرارات الوظيفية.

لا شك في أن الثقافة الخاصة لها دورها الأساسي في انتقال المفهومات التسلطية، يضاف إليها غالبًا التملق الذي يبديه الموظفون لمرؤوسيهم، لإيهامهم بأنهم دقيقون وحريصون جدًا على دقة الإجراءات. فيسربون العلل إلى الثقافة الإدارية في أوروبا مثلًا، ويمارسونها -فحسب-على من كانوا هم أنفسهم في موقفهم ذات يوم.

هذه الظاهرة جديرة بالاهتمام، وخاصة في ظل الهجرات المكثفة في السنوات الأخيرة، إذ إن مجموعات كبيرة من المهاجرين واللاجئين تعاني الضيق والعوز الشديدين؛ بسبب وقوعهم تحت رحمة موظفين من أرومات شرق أوسطية غالبًا، وهم لا يجدون عونًا بسبب جهلهم لحقوقهم، وجهلهم أيضًا بالجهات التي يفترض بهم أن يشتكوا إليها، وأيضًا لفقدان الجهات الاستشارية التي توفر لهم المعلومات الكافية، وتوجههم نحو الإجراءات الممكنة، وخاصة في ظل كثافة الأعداد المهاجرة.

وإذا كانت الأطر السياسية المعارضة تشتكي من عجزها عن تغيير الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، في ظل السياسات المجحفة للدول الكبرى، فإنها كانت -على الأقل- قادرة على تخفيف المعاناة عن الفارين بأرواحهم إلى أرض آمنة، من خلال صون كرامتهم، وحمايتهم من التعسف الإداري، وفتح آفاق حياتية ومستقبلية أفضل. على الأقل من خلال تشكيل مكاتب للمتابعة والاستشارات. وهي ذات تكلفة زهيدة، مقارنة بالميزانيات الهائلة التي تصرف على المؤتمرات والاجتماعات التي لم تحقق أي شيء، بل استخدِمت من بعض الدول للتعمية على سياساتها الحقيقية المتناقضة مع الشعارات الفضفاضة التي تعلنها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق