الكتابة الإبداعية غوص في الأرض المجهولة، لانتزاعها من السماء، وزرعها في الأرض كرومًا وأشجارًا دائمة الخضرة، من أجل البحث عن مسارات مجهولة، هائمة في الهواء الطلق. خاصة إذا كان النص المقروء زاخرًا بعدة قراءات، وله مقاصد متنوعة واسقاطات كثيرة، يحمل في طياته هموم وأمنيات وهواجس الإنسان، في بحثه المضني عن الحرية والجمال والحق.
رواية “دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب” للروائي اللبناني المبدع ربيع جابر، تتناول قضية في منتهى الأهمية تتعلق بالصراعات الثانوية الهامشية، أي الأدنى من السياسي؛ لترتفع وتتحول إلى واقع سياسي تأخذ في طريقها الأخضر واليابس، وتحول بلادنا إلى مسرح عار للأحداث؛ ندخل معها في عنق الزجاجة، دون قدرة على إيجاد بديل للخروج منه.
الرواية ترصد حدثًا مهمًا وقع في العام 1860، إبان الحرب الأهلية في جبل لبنان؛ حيث كَسر فيها الدروزُ المسيحيين خلال ثلاثة أسابيع.
يبدأ النص في التنقل على عدة مستويات، متنقلًا من موقع إلى أخر، معريًا واقع المجتمع اللبناني المفكك والمتداخل: الدولة العثمانية في فترة انحسار دورها، هزيمتها الداخلية، أو في الأفول الأخير من وجودها، التدخل الغربي في شؤوننا من موقع القيم والهيمنة… يتحول لبنان إلى جسد السارد ومتنه؛ وعليه يتم تمثيل المشهد الروائي، وينتقل نقلات نوعية في فضاءات متباعدة ومتقاربة.
تقبض السلطنة على الجناة ظاهريًا، ويرحلون إلى طرابلس الغرب وصربيا، ليمكثوا هناك نزلاء سجن عن الجرائم المباشرة التي اقترفوها بحق أخوتهم في الوطن الواحد من الدين المسيحي.
الإنسان الضائع في المعادلة هو بائع البيض حنا يعقوب الذي لا علاقة له باقتراف الجريمة ولا محل له في العير أو في النفير. يجول القرى يشتري البيض ويبيعه في بيروت. يوضع في الموكب المرحل لتغطية رقم بين هذه الارقام.
شاءت الصدف أن يمر هذا “الحنا” بالقرب من الباخرة الكبيرة (أم ثلاثة دواخين): “جئت في وقتك يا ابني يا حنا”، هكذا يقول المسؤول التركي. ويكمل التعمية والخداع: “لا تخف، هؤلاء المحابيس حاربوا في الجبل، وصدرت الإرادة السَّنية بنفيهم إلى بلاد الصرب وراء البحر. ويتابع: “هل تعرف عكا؟ عظيم. عكا بلد حلو. من هنا إلى مرفأ عكا رحلة يومين أو أقل في هذه الباخرة. أتيت في أحسن وقت يا ابني حنا”. ويكمل الخداع والتسوية المزيفة؛ ليصبح هذا البائع البسيط ضحية حسابات تتعلق بالسلطنة وعلاقتها بالخارج من موقع التابع: “كم ثمن هذا البيض الباقي معك؟ سأعطيك ضعف ثمنه وسأزيد على ذلك ثلاث ليرات ذهب، تأخذها عندما ترجع من عكا”. وعندما يفتح فمه ليعترض تتم تسوية القضية بكسر أسنانه وفكه وركبته، ويغمى عليه ويرمى في داخل الباخرة. ويتحول إلى رقم مكمل للعدد الناقص الذي ساوم فيه الحاكم العثماني أحد وجهاء الدروز، وقبض رشوة ثمنا للأفراج عن أحد أبنائه.
يبدأ النص ينفتح -رويدًا رويدًا- على مساحة أفقية، ليدخل في مسارات الحدث: بيروت في أثناء الاحتلال العثماني، انتقال عدوى مذبحة بيروت إلى دمشق، وقتل مسيحييها أيضًا، العلاقات الاجتماعية في تلك الأيام، الإشارات المبطنة يخفيها النص لعلاقة السلطنة والخارج بما جرى.
هناك مستويان للقراءة: الدرزي الإنسان، البسيط النقي، الفلاح الدقيق المخلص لعمله، بغض النظر لمن تعود ملكية الأرض أو البساتين التي وكّل بالقيام بها. يقول آمرهم في السجن:
ــ ” قطفوا الكروم وكأنها كروم أبيهم، ولم يكسروا الفروع، ولم يرموا العناقيد رميًا في السلال”، ويكمل تقييمه لهم من الموقع الإنساني وانضباط سلوكهم:
” إذا دنت من مكانهم امرأة هنغارية أو صربية حمراء الثوب عارية الذراعين، حدقوا إلى التراب وتركوا رؤوس أصابعهم تقطف وحدها كما يفعل العميان”.
ثم يعرج النص على الدرزي المتمذهب، المستلب؛ حيث يخضع للشروط التاريخية المنحرفة التي وضع فيها، كما وضع غيره من الناس في المذاهب والطوائف الأخرى:
ـــ “هؤلاء دروز من لبنان، الجبل المذكور في التوراة. لكنهم أسود كاسرة. هل تعرف ماذا فعلوا بجيرانهم المسيحيين في بلدهم؟ وهؤلاء جيرانهم وأكلوا معهم”. لكنهم تقيؤوا بعضهم فيما بعد:
ــ ” الآن يبدون مثل الأولاد لكن أطول”… ” كنت أراقبهم طوال النهار ولم أقدر أن أتخيلهم يقتلون أو يحرقون!”.
ينفتح النص ويحلق ويجول في عوالمنا ويعرينا ليكشف لنا -كشفًا مبطن- كيف أن الطائفية، عندما تتحول إلى بنية سياسية، فإنها تعوّم المفهوم وتحجّم الإنسان وتقزمه، وتحوله إلى مجرد كائن أو أداة لغاية.
إن التمذهب معطى تاريخي، غلاف للعقل وتحجيم الأهداف الوطنية العليا. تأخذ الطائفية جزءًا من مرتكزات الدولة أو وظائفها وتمترس الفرد فيها؛ بل تقوقعه على نفسه وتجعله أسير ذات الأخر، أو مجرد إنسان مستلب فاقد القدرة العقلية على المحاكمة المنطقية. في هذه الحالة تتحول الطائفية إلى بنية كاملة تأخذ دور الدولة -في شكلها العام- بمعنى مسخها. بيد أنها علاقة منغلقة على المذهب، تحول ذاتها إلى علاقة نرجسية بين جماعة ذات علاقة سياسية منفصلة عن محيطها، لها زعماؤها الذين يتفاوضون عليها من أجل تحسين مكانتهم –كنخب- تؤمن لنفسها تراتبية مالية وسيطرة ومكانة منفصلة عن المهمشين.
إن الإنسان الطائفي مشوه أو شوهته الحياة، عندما فُرضت عليه ممارسات محددة وجعلت منه كائنًا لديه استعدادات مغلوطة، يخضع لمنظومة من العلاقات تشوه الذائقة الجمالية لديه وتحجم احساسه بالعدالة واحترام حياة الأخر/ المختلف؛ حيث تأسر مخيلته وتهييء له تحضيرات ذهنية ومفهومات مسبقة للتعامل مع الواقع.
إن النص الإبداعي لهذه الرواية غني جدًا وسهل القراءة من الخارج، وبسيط عندما يُتناول موضوعه، بيد أنه في الحقيقة صعب، لأنه ينطوي على تعقيد شديد لتعدد قراءاته وتأويلاته. ونحن لا نستطيع معرفة أي نص -في سياق أدبي عام- من دون أن نستوقفه ونجرده من الحمولات العالقة فيه؛ عبر تعريته وكشفه والغوص فيه، لمعرفة طبيعته والسياق الذي ولّده ووضع المفهومات التي تدور حوله. إنه -أي النص- سلطة تدور حوله عوالم متعددة مدموجة في عالم واحد، نصل إليه عبر تأويله وتفسيره، للوصول إلى قرار أو حقيقة نركن إليها، نرتاح أو نشعر بالإشباع أو نصل إلى اللذة أو النشوة. ننتشله من السياق العام، من العالم الذي يدور حولنا وندور حوله، ونحوله إلى عالم خاص بنا، ضمن سياق يمثل حياتنا وممارساتنا.
يعوم النص، يدخل إلى السجن وعوالم الناس فيه، يصور سحق حيوات هؤلاء البسطاء الذين يحشرون فوق بعضهم كالدجاج في القن! الأكل من نوع واحد دون أية قيمة غذائية، لا تنفس في النهار ولا ضوء أو قنديل في الليل. كأنهم أشباح منفصلة عن هذا العالم. لا أهل يسألون عنهم أو أقرباء أو أصدقاء يزورونهم. لم يتذمروا أو يشكوا –ربما خجلًا أو ترفعًا- وكأن ما فعلوه واجب مقدس، فرضته الضرورة التاريخية لانعدام الوعي بالضرورة.
تشاء الصدف أن تحتاج (نازلي) -عشيقة جودت باشا، حاكم بلغراد، وقوادة جهتي الدانوب- لعمال يقطفون بساتين العنب والتفاح والاجاص والتين والرمان:
ــــ “من سلمين -وراء الحدود- يجيء إليها زبائن على المركب البخاري. تجار وأصحاب مزارع وموظفون في جمارك الإمبراطورية النمساوية/ الهنغارية، يقطعون ثلاثة أميال قصيرة من الماء كي ينعموا بالعسل الشرقي. يجلبون ضيوفًا نبلاء من بودابيست وفيينا وسالزبورغ، وبنات صغيرات رومانيات وشركسيات وألبانيات وغجريات وسودانيات. لم تتعلم لغتهن، لكنها علمتهن بعض الفنون”.
يتحول هؤلاء الرجال المدافعون عن طائفية الطائفة إلى مجرد عبيد عند القوادة نازلي والداعر الخسيس جودت باشا. بهذه الحالة تهبط قيمة قضيتهم إلى اسوأ مستوى أخلاقي؛ إلى مجرد مجرمين منفيين عن بلادهم وأهلهم ووسطهم الاجتماعي، بعيدين عن نسائهم وأولادهم واصدقائهم وأراضيهم وكرومهم وبساتين التفاح والرمان؛ حيث يتحولون إلى زوائد بشرية لا قيمة لها، من أجل غاية لا غاية لها، أن يذبح الجار جاره.
إنهم بشر من لحم ودم ومن طينة طيبة، بل في منتهى الرقة والشفافية والنبالة… وهكذا ينقل النص أهدافه ومراميه ليقول لنا قولًا خفيًا، إن الإنسان -قبل أن يعبّأ بالأفكار المسبقة- يكون رقيقًا ناعمًا وما إن تدخل –تلك الأفكار- ذهنه ويتمثلها؛ حتى يتحول إلى وحش كاسر.
الرواية حصلت على جائزة البوكر العالمية، وتقع في مئتين وواحد وأربعين صفحة، دار الآدب، طبعة عام 2011.