مقالات الرأي

البعد الجهادي الاستبدادي في ولاية الفقيه الإيرانية

تُحدد علمانية الدولة من عدمها في الأنظمة السياسية، بالموقع الذي يحتله رجال الدين من القرار السياسي فيها، فكيف وقد أصبح الفقيه (المرشد الأعلى) مُمسكًا بهذا القرار دون غيره، وبلا مراجع أو مسائل، وأين تغدو الحريات العامة والخاصة بعد أن شملت ولاية الفقيه الولاية على المجتمع والدولة والأفراد، وبات بمقدوره أن يُغيّر في نصوص الشرع ذاته، بما يتوافق مع هذه المصلحة، كما يراها هو وطاقمه الحاكم، إذ لا تختلف مصلحة الأمة هنا عن مصلحة هذا  القابض على الرئاستين: الدينية والسياسية، خاصة بعد هذا المستوى من التماهي بين شخصه وسلطته والشرع والمشرّع ورجل الدولة والدولة ذاتها، حتى صار أيّ تعديل في نصوص الشرع من جهة وفي القوانين والأنظمة المدنية من جهة ثانية، ضامنًا لمستقبل نظامه، ولمستقبله الشخصي في آن واحد.

من الطبيعي أن ّهذا التغيير، الذي شرّعه الخميني، لم يأخذ برأي الأمة المستلبة بوعيها الديني والسياسي، والمشدودة بعصبها خلف قراراته وتوجهاته، حيث يكمن هنا انتفاء الحاجة للديمقراطية إجرائيًا، بوصفها تُشكّل في بنية النظام تراجعًا عن البيعة، التي وضعته في منصب المرشد الأعلى دينيًا وسياسيًا، وجعلت من الأمة المبايعة تابعًا، لا طول لها ولا حول، لا في محاسبة الحاكم ولا تغييره، بل صار جمعها مضطرًا أن يلتمس رضى الحاكم ومباركته لها في سيرها الغريزي (القطيعي) خلفه، وهي تعلم أنّ حيازتها رضاه، لا تأتي إلا بانغماس كامل للأفراد في الطقس الديني والولاء السياسي التام، وما على هذا المرء المستلب، إلاّ أن يكدّ ويتعب في حقل التنافس بين العبّاد المجتهدين، ليُقدّم استعراضًا عصابيًا محمومًا، يُمثّل أعلى مشهد انفعالي حميمي (مازوشيّ) للتطرف في التعبير عن الندم، وبالبكاء التطهّري الحارّ، ولكي يبرم عقدًا مضمّخًا بالدم وجلد السياط مع وكيل الأئمة الغائبين، كونه يُمثّل درجة متقدمة، من التواصل مع أرواحهم الغائبة الخالدة، ومضمون عقده أن يأخذ بثأرهم من القتلة السنّة بالدرجة الأولى، وكل مخالفيهم في الرأي والمذهب، فلكي يثبت الفرد الشيعي ولاءه، عليه أن ينخرط بقوة في هستيريا بكائية تطهّرية عامة، ولاسيما في ذكرى عاشوراء وعند قبور الأئمة الآخرين!

تُؤكّد هذه الصلاحيات الإضافية التي شرّعها الخميني لولي الفقيه، الجالس في قمة الهرم السياسي/ الديني، على القطيعة التامة مع الديمقراطية والحداثة، والميل إلى فرض المعتقد الشيعي باتخاذ إجراءات واستحداث قوانين، تتجاوز ما فرضه إسماعيل الأول مؤسس الدولة الصفوية منذ أكثر من خمسمئة عام، من تخيير الفرس بين الولاء للشيعة أو الموت، ليبدأ بفرضه على أتباعه ومريديه ورجال سلطته خيارًا وحيدًا أقرّه (مجلس تشخيص مصلحة النظام) بتوجيهاته المباشرة، ليؤكدوا بعد المسافة بين هذا التوجه الغيبي والسياسي البرغماتي عن العلمانية ومجافاتهم لها، ذلك أنّ النظام الذي تحكمه عمامة الفقيه، ويسعى إلى فرضها وتصديرها، بعيدة  كل البعد عن العلمانية، وعن العقلانية السياسية والدينية، لأنهما تذهبان بالمهابة التي يضفيها الفقيه المجلل بالسواد على نفسه، وتفرض وقف التدخل والعدوان على الآخرين، وطبيعي ألا تلتقي العقلانية والاعتدال مع تحريك الغرائز المذهبية والتحشيد والتحريض على التضحية والجهاد، ليكون العامة المستلبة جنودًا لمقاتلة الـ (أعداء) وفقًا لتعابيرهم، إذ لا مكان عندهم  للخصومة السياسية ولا للتنوع المذهبي، في ظلّ التدخل والقتل وأساليب العدوان تحت رايات الأولياء جميعًا، وهذا ما يجعل نظام الولاية نظامًا جهاديًا عدوانيًا متطرفًا، يقوده داعشي شيعي، ينطوي على (روح الله) بعد أن ألغى الخميني المنتصر على خصومه الداخليين، تلك الثنائية التي سادت زمنًا بين الشاه والفقيه (شاه/ فقيه) وبين مرجعية (قم) ومرجعية (كربلاء)، وأتمّ اختطافه لمسار الثورة وتخليصها من المخالفين الليبراليين والعلمانيين، ومن رجال دين رفضوا هذه العقيدة المكابِرة، وتمسّكوا بالفصل بين الرئاسة الدينية وبين السياسة.

لقد وسمت هذه الصلاحيات ومجمل السياسات العدوانية لسلطة الولي بالنكوصية، التي قيّدت الحريات الشخصية والعامة، وحجّمت وسائل الإعلام والميديا ووضعتها تحت رقابتها، كما فرضت على الكلمة والصورة تضييقًا نلمس آثاره في أن المهجّرين والمطاردين الإيرانيين من سلطة ولي الفقيه، قد حققوا تقدمًا هائلًا، وأنجزوا ما لم يستطيعوا أن ينجزوه داخل إيران، ولاسيما في مجال السينما الإيرانية البعيدة عن أعين الرقيب، بينما يخضع السينمائيون وكل الحراك الثقافي في الداخل للرقابة الصارمة والملاحقة وفرض الأحكام.

كما أبقى نظام ولي الفقيه “زواج المتعة” المهين لكرامة المرأة، ويحولها إلى سلعة تتداولها الأيدي، ولاسيما في حالة ضعف المرأة الفقيرة، وفرض عليها نمطًا واحدًا من اللباس (الحشمة)، وصار يُحاسبها على الضحكة والهمسة، وأوصله استبداده إلى إقفال الباب في وجه جيل الشباب الرافضين لمفاهيم وثقافة (القروسطية)، وليس بعيدًا عن هذه الأهداف، استحداثهم لمفاهيم تفصل الناس إلى (أخيار وأشرار) و( رحمانيين وشياطين)، مما يضعهم في موقع النخبة الاستعلائية الدينية والسياسية، ويمضي بها إلى مفهوم (الفرقة الناجية) المنغلقة على ذاتها، لتشكل عصبًا للطائفية الجهادية الدعوية المنفعلة، حيث يزداد هذا العصاب حدة ويصبح هستيريًا، كلما امتلأت الرؤوس بوهم اقتراب عودة المهدي من غيبته الكبرى، قادمًا من خراسان بجيوش فارسية، تؤكد الربط المحكم بين الشيعية كمذهب وبين الحلم الإمبراطوري الفارسي، فبعد قضاء المهدي على أعور الدجال وعلى أعداء الله والكفرة من كلّ الطوائف والملل، يُتابع سيره بالجموع إلى مكة لتحريرها واستخلاصها من يد (الكفرة) السنّة، الذين هيمنوا عليها ومنعوا آل البيت منها قرونًا طويلة.

لذا تبدو هذه البنية المغلقة على ذاتها المذهبية في النظام الإيراني، أبعد من مجرد مشروع جهادي استيطاني، يُهدّد بنية وكيانات الدول العربية والإسلامية الضعيفة، ولا يكتفي بتهديد الوجود التاريخي للأكثرية السنّية، وكل المناوئين لمشروعه وتوجهاته العقائدية والسياسية فحسب، بل يعمل على تفكيك الهوية الوطنية للدول المجاورة، إذ يجعل الولاء والتابعية للمشروع الإيراني أهم وأولى من الانتماء للوطن، وهو بهذا لا يختلف عن تعصب وعنصرية “داعش” في الطرف السنّي، وبما تضمره من العداء للمختلِف، وسعيها إلى تحطيمه والحلول مكانه، لتمارس شتى المظالم وتُقصي كل المكونات الإثنية والدينية غير الشيعية، لكنها وخلافًا لحلمهم أو وهمهم، ولسوء طالعهم، لن يستطيعوا أن يدّعوا حتى تمثيلهم للشيعة كلهم، فثمة ملايين المعارضين من شيعة عرب وفرس وأجناس وقوميات متباينة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق