تحقيقات وتقارير سياسية

حلب.. أدب الهزيمة أم تراكم النصر

تصبح بعض المدن والقرى السورية سجونًا بفعل الحصار، أو قبورًا نتيجة المذبحة المستمرة داخلها منذ خمسة أعوام دون أن نشهد حالة عربية صارخة منتفضة أو ملتهبة المشاعر ضد جريمة النظام السوري وحلفائه، إذا أخذنا حلب أنموذجًا للتوحش والفاشية المستمرة عليها، فهو لا يلغي ما تعرضت له باقي بقاع الجغرافيا السورية من قرى ومدن وأحياء ومناطق، مع إبادة عائلات بكاملها،  لم يقل نصيبها عن نصيب حلب، ولأن منطق الاستمرار أو التعامل مع الجريمة يمر عبر حقبة الانحدار التي نشهدها، بتبريرات لها امتداد مع الماضي المتصل بواقع اليوم الذي نعيشه عربيًا وسوريًا، فاذا كانت موسكو والنظام السوري يؤشران إلى استعدادهما للمضي قدمًا لفرض مزيد من الكوارث الفاتكة بالجغرافيا السورية وسكانها، فإن الحاضر من نتائج تضخم هذه الفاشية لن يجدي نفعًا في حسابات التاريخ والمستقبل سوى تراكم اليقين بانكسار التوحش.

بات واضحًا ومتفقًا عليه نظريًا وعمليًا، أننا أمام مرحلة جديدة عنوانها الأبرز حلب، تتميز بمهمات وأهداف وآليات محلية وعربية ودولية تسعى لفرض معطيات جديدة في الميدان؛ لكي تصبح عنوانًا لا ينظُر إلى بقية المدن والقرى الأخرى ويستهدف شطب وإنهاء الثورة السورية، الملفت في هذا الوضوح، مع تناثر الجثث في أزقة وشوارع حلب، وتجلي شراسة الهجمة على المدينة، الغياب التام للمواقف المندّدة بالجريمة، واقتصار ذلك على البيانات الرسمية المناشدة لوقف اطلاق النار، ودخول المساعدات الإنسانية، وهي جمل وعبارات باتت ممجوجة في مشهد السياسة الدولية والعربية، إذ لم يكن ينتظر أو يعوّل السوري على الإطراب لسماع تلك العبارات، بقدر شعوره بحالة اليتم الأخلاقي والإنساني الذي وجد نفسه أمامها، ترتكب كل المحرمات وتُدمر كل الخطوط الحمراء، ويصبح العار كاشفًا، ليكون السؤال ما الذي أصاب الحالة العربية؟ سؤال قديم طرحته بعض النخب العربية في  سياق جولات الصراع مع العدو الاسرائيلي، وتعزو إجابته إلى سيناريو ظل -وما زال- معروفًا حول تكبيل الشارع وقمع الحريات وتكميم الأفواه واقامة الدولة البوليسية، لكن لم يكن بوسع تلك النخب الوقوع في مخاض دعوة التضامن مع الشعب السوري ضد تدمير حواضره بالطائرات والبراميل المتفجرة وارتكاب المجازر مع مرور كل ساعة، على العكس من ذلك، تُمسك بعض النخب حبائل النظام حول عنق الشعب السوري، ففي فترة قصيرة  أحدثت ثورة السوريين الفرز الأسرع بالتاريخ، وحشرت في زاويته العقل البشري الذي لم يعد يرى في مذبحة السوريين إلا أنموذجًا منحطًا له.

دونت كتب التاريخ كثيرًا عن سياسة الأرض المحروقة، واحتفظ بعض من عايشها بذاكرته الشفوية لنقل بعض أحداثها، اجتهد لها المؤرخون في تاريخنا المعاصر لإبراز تلك السياسة، فكان نصيب الفلسطينيين وافرًا في منطقتنا، منذ بداية القرن الماضي لمقاومة تلك السياسة، على الرغم من فداحة الكارثة وآثارها الممتدة حتى يومنا هذا، ظلّت الأرض المستهدفة حرقًا واقتلاعًا وتهجيرًا تُروى من جيل إلى جيل، وبقي الحجر والشجر والرابية والبئر واللاجئ وحواضره، تدل على الجريمة المؤسسة لدولة الاحتلال.

وحده الخروج من كتب التاريخ، واعادة شريط الأرض والإنسان المستهدف، هو الحدث الأهم، بعد سبعة عقود من حفظ الرواية، لمشاهدتها، لنعيش حاضر الأرض المحروقة بثًا مباشرًا. الجثث منتشرة في الشوارع وبين الأزقة وتحت ركام المدن والأحياء التي لم تزل تُدك بأعتى الأسلحة والصواريخ والطائرات، في حلب وإدلب وحمص وحماة وأرياف دمشق ودرعا وباقي المدن والأرياف السورية.

تتهاوى الحواضر، وتتفحم الجثث، وأخرى يُمثّل بها في المسالخ البشرية، فلا تعود لكتب التاريخ سيارات الإسعاف والمستشفيات المدمرة وآلاف الجرحى وملايين المشردين وعشرات المجازر، ضحاياها بيننا وحولنا يحاصرون الوعي البشري المتفلت من عقال الأخلاق والضمير، كيف يعيش السوري نكبته ويحفظها ويدونها ويصرخ بها؟ مؤلم وصادم جواب التاريخ.

إن الإخضاع والسحق والاقتلاع والتهجير ليست مفردات تمر في فقرات متسلسلة في “أدب” النكبات لمجتمع يخضع لقوة التدمير والمذبحة، يُسجّل السوريون لحظات مرعبة للعقل البشري، فتبقى نصف الرواية أو ربعها تنقل عبر الأثير، وبقيتها تحتاج دهرًا للوقوف عليها، ويخسر السوريون في مذبحتهم المنقولة على الشاشات كل ما يعوزهم لمواجهة الجلّاد، بخلاف ما حظي به المنكوبون على أيدي الصهيونيين قبل سبعة عقود، على الرغم من قوة الأدوات التي تنقل وتسجل التدمير والقتل وتنقل صور الأرض المحروقة بالنابلم والفوسفور، ينجح التكتل المافيوي الذي تقوده موسكو وطهران في تقديم عرض قوة ساحق فوق الجسد السوري، مستعرضًا أجواء “خوارقه” العسكرية و”الأسطورية” في حلب، وهذا يكشف عن ميل متعاظم نحو الفاشية والإرهاب، يعكس معه افتتان بأسطورية الفاشية وتمددها غربًا وشرقًا على حساب الأكلاف البشرية والمادية التي يقدمها السوريون اليوم مع تكثيف مناخ التخلي عن قضيتهم، وابداء التسامح الشديد حيال تكثيف الجرائم الروسية والإيرانية، والجنوح نحو حلول شكلية يفرضها النظام السوري عبر موسكو وطهران؛ لفرض جو سياسي يتلاءم وهمًا مع رغبة الأطراف المتحالفة مع نظام دمشق؛ لسحق ثورة السوريين.

افتتان يعود من جديد من بوابة “النصر” المفترض أنه يتحقق في حلب، افتتان باللحم الحي الممزق لن يجلب سوى الهزيمة، وتحقيق أمر واحد وجلي هو الدمار الواسع الذي خلفته فاشية النظام على المجتمع الذي يمثل النقيض الأكثر حدة لوجوده، غير أن الثابت والأبدي في وعي السوريين والعرب، وكل حر في العالم أن الضربات الساحقة والفاشية لن تطفئ القدرات النضالية للسوريين كما ترغب موسكو وطهران وكل خصوم الثورة السورية، بعد خمسة أعوام لن يقطف ثمار التضحيات سوى الشعب السوري عاجلًا أم آجلًا، متيقنًا من إرادته لإسقاط النظام.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق