رحل صادق جلال العظم، قبل أن يُكمل ثورة عصره التي عاشها بكل سخاء، سخاء الفكر والانتماء إلى الإنسانية التي رغب لها أن تنعتق من لبوس رث، حاكه الظلم والتغييب عن الواقع، عن الفعل والعمل والإبداع، وهو من قال -يومًا- في سياق تعريفه عن نفسه: “لا أبكي على الأطلال لأنني ابن عصري بإنجازاته وانهياراته، بفتوحاته وجرائمه، باكتشافاته وشناعاته، باختراعاته ومباذله، ولا أمشي برأس (مندارة) إلى الوراء؛ لأنني أحيا زمني”.
نحو 82 عامًا عاشها صادقًا مع نفسه، ومع محيطه، ولم يُساوم، أو يدخل بازار الفكر أو الاستبداد في شراء الولاءات، وحين ألهم الربيع العربي عواطف أبناء سورية، وألهبت حناجر هذه الأجيال ساحات البلد؛ كي تصنع عصرها، انتمى العظم إلى هذه الثورة بكل جوارحه، وعاشها؛ لأنه كما قال عن نفسه، ابن عصره، فرحل هذا الدمشقي بعيدًا عن دمشقه، قبل أن تفتح باب العصر، وتدخله كأم العواصم بما تستحق، وبما قامت عليه هذه الثورة.
يرحل الجسد ولا يرحل الفكر، هكذا ربما أراد العظم لما قدّمه من دراسات وأبحاث ومؤلفات، ومهما اختلف معه بعضهم أو أيّده آخرون، لا يمكن إلا أن يعطوه حقه.
لقد آمن بالحرية، بوصفها مُناخًا ومنطلقًا لكل فكر، فنظر إلى الفكر اليساري بتفاصيل البحث عن الحرية، والتعامل مع الحقائق التي تخص المجتمع المعني بها، وعدّ مدخل أي تحول سياسي واجتماعي واقتصادي مرتبط بنيل الحرية، وهذا -أيضًا- ما جعل العظم ينتمي بقوة إلى تفاصيل الثورة الفلسطينية، ويتعايش مع انتصاراتها ونكباتها، وهو ما دفعه -أيضًا- إلى انتقاد الفكر الديني عادّه يُساعد في إبعاد الإنسان عن واقعه، وبعض هذا التفكير يسوّق للاستبداد، أو يُكمله، كما كتب في الأدب والسياسية والفلسفة، وقد تُرجمت أعماله العديدة إلى لغات مختلفة، منها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والتركية والألمانية والهولندية وغيرها.
انتماء العظم إلى الثورة السورية جعلته يدخل في انتقاد اليسار ومواقفه من الربيع العربي، ورأى أنه تأخر -بأحزابه وبعض أفراده- عن الشعوب، وتقابل مع الاستبداد وبات جزءًا منه، ورأى أن هذا اليسار بحاجة إلى تجديد في فكره وتحليله ومراجعه؛ كي يدخل إلى العصر أو إلى المستقبل، كما انتقد العظم المثقفين الذين خذلوا شعوبهم عندما اندلعت الثورات.
نقلت عدة وسائل إعلام عن العظم، عدّه دخول ميليشيا “حزب الله” إلى سورية تأسيسًا لحروب طائفية، وذلك بحسب الشعارات والأيديولوجيا المذهبية التي تنتمي إليها هذه الميليشيا، وتدافع عنها، وهكذا بقي محافظًا على انتمائه إلى تفاصيل الحياة ووقائعها، لا إلى شعاراتها.
وفي ظل أنظمة استبدادية طاردة للكفاءات، كالنظام السوري، ضاقت المساحة على العظم في بلده؛ فاستقطبته عدة جامعات عالمية؛ ليدرّس فيها، والمؤلم في مشهد الظلم الذي يحيط حياة سورية والسوريين، أن يغيب مفكروها وأبناؤها بعيدًا عن بيوتهم وحاراتهم وعواصمهم، فرحل في برلين، كما نعاه نجلاه عمرو وإيفان: “نعلمكم -ببالغ الحزن والأسى- وفاة والدنا صادق جلال العظم، الأحد 11 كانون الأول/ ديسمبر، في منفاه برلين، ألمانيا”، وهكذا رحل بعد صراع مع المرض، ليغدره، كجميع القتلة، الذين اغتالوا وطنه وشعبه، تاركًا إرثًا فكريًا كبيرًا، بعناوين متنوعة، منها: “الصهيونية والصراع الطبقي، والنقد الذاتي بعد الهزيمة”، و”دراسات يسارية حول الثورة الفلسطينية”، و”زيارة السادات وبؤس السلام”، و”الإسلام والعلمانية”، و “نقد الفكر الديني”، و “دفاعًا عن المادية والتاريخ”، وعدد من المؤلفات المهمة غيرها.