لن يكون مُمكنًا من طيف المعارضة السورية، بعد اجتياح حلب “الشرقية” من حليفي النظام: موسكو وطهران، التنصل من إعادة مراجعة ما تمتلكه من أوراق، في أي مفاوضات محتملة، مع النظام السوري، والمحتلين: الروسي والإيراني، ولا سيما أن الاعتماد على الفصائل المسلحة، بوصفها ورقة في التفاوض، بات أمرًا صعبًا، كما كشفت معارك حلب، وكما كشفت -من قبلُ- عمليات ترحيل المقاتلين من مناطق في محيط العاصمة، مثل داريا، وقدسيا، والتل.
في كانون الأول الماضي، تأسست الهيئة العليا للتفاوض، وضمت ممثلين عن الائتلاف الوطني، وهيئة التنسيق الوطنية، وفصائل عسكرية، ومستقلين، وكان تشكيلها في الرياض، بعد اجتماع فيينا، الذي حضرته السعودية، وكُلفت -خلاله- بمساعدة المعارضة السورية، في تشكيل هيئة تفاوضية، من شأنها أن تتخطى الانقسامات في طيف المعارضة، وتكون قادرة على ردّ التهم التي وجهت للمعارضة، بأنها منقسمة، ولا يمكنها أن تتفق على أهداف محددة في العملية التفاوضية، وأن تكون جاهزة بذلك؛ للدخول في العملية التفاوضية، والوصول إلى حل سياسي، واتفاق على تفاصيل المرحلة الانتقالية.
منذ ذلك الحين، تغيّرت معطيات كثيرة في الساحة الإقليمية، وخصوصًا في العلاقات التركية – الروسية التي مالت إلى التحسن، بعد الانقلاب الفاشل على رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، والزيارات المتبادلة بين أردوغان وبوتين، وكان من نتائجها تراجع تركيا عن دعم المعارضة السورية، وهو ما برزت إحدى نتائجه في حلب “الشرقية”، إضافة إلى هذا التطور، كانت معركة الموصل ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتي عكست جملة من التوافقات بين واشنطن وطهران وبغداد وأربيل.
لقد فشل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، منذ تشكله، في نهاية 2012، من إقامة التوازنات الضرورية مع الفصائل المسلحة، بل ذهب أبعد من ذلك حين تقاعس عن تصنيف بعض الفصائل التي وُضعت في قوائم الإرهاب الأممية، بأنها لا تنتمي إلى ثورة السوريين، وهو ما عكس أمرين متلازمين: الأول يتعلق بعجزه عن دعم الفصائل المعتدلة، لملء الفراغ الذي حصل في مناطق ومدن عدة. والأمر الثاني، وجود خلافات بين القوى السياسية في داخله على خط الثورة الرئيس وأهدافه، واعتراض إسلاميين في داخله على عدّ تلك الفصائل إرهابية، وخاصة “جبهة النصرة”.
أما الروس الذين أوحوا بالقبول بالعملية السياسية، فكانوا على علم تام بأن القوى السياسية الممثلة في الهيئة العليا للتفاوض لا تمتلك سندًا عسكريًا يُعتدُّ به في الميدان، وقد لعبوا على عامل الوقت، واستفادوا من موقف الإدارة الأميركية غير المبالي بالعملية السياسية. وبالتالي؛ فقد استمرّ الروس في تصعيد هجماتهم ضد الفصائل المسلحة، من جهة، والسعي -من جهة ثانية- إلى إقامة مصالحات؛ من أجل استعادة السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من “سورية المفيدة”.
لم تتعامل الهيئة العليا للمفاوضات مع المخاطر التي فرضها السلوك الروسي، وبقيت، كلحظة تأسيسها، مظلة لتعايش قوى سياسية غير منسجمة، من دون خطط بديلة، أو دراسة جدية للمخاطر والفرص الموجودة، كما بقيت، تمامًا مثل الائتلاف الوطني، من دون تواصل إعلامي حقيقي مع السوريين، ولم تحاول تعزيز وتشبيك العمل بين قوى سورية مختلفة، لتكون سندًا لها في عملية التفاوض، معتمدة في سلوكها هذا على وعود الدول الداعمة، من دون الأخذ في الحسبان أن سلوك تلك الدول هو سلوك دينامي، ومتغيّر بحسب متغيرات الوضع الإقليمي والدولي، كما لا يمكن الركون إلى العوامل الخارجية وحدها، وهو الدرس الذي كان يجب تعلمه من تجربة الائتلاف الوطني مع مجموعة “أصدقاء سورية”.
لا تبدو، في هذه اللحظة حظوظ العملية التفاوضية جيدة، بل يمكن القول إنها معدومة، فقد وضعت الهيئة العليا للمفاوضات أهدافًا محددة، لا يمكن تحقيق أيٍ منها ضمن الشروط الميدانية الراهنة، كما أن المجتمع الدولي لا يبدي أي اعتراض جدي على السلوك الروسي، كما أن الوقت اللازم لتباشر الإدارة الأميركية الجديدة عملها غير قليل، إضافة إلى احتمالات تعاون أكبر بين واشنطن وموسكو في ظل إدارة ترامب، من شأنه أن يرجح كفة الحرب على الإرهاب على أي كفة أخرى.
ومن الواضح أن الروس سيسيرون نحو تركيب قوى “معارضة” متوافقة مع تصوراتهم، لتكون بديلة عن الهيئة العليا للمفاوضات، وبغض النظر عن نجاح تصور كهذا في إنجاح الحل السياسي، لكن من شأنه أن يقطع مع مرحلة كاملة من العمل السياسي التفاوضي، ومع بيانات جنيف وفيينا، ويضع قوى المعارضة التي عملت خلال السنوات الماضية على تصورات وبرامج للمرحلة الانتقالية، في حالة إعادة النظر في مغزى وجودها، وطبيعته، وتحالفاتها، وآليات عملها.
لقد دعمت روسيا النظام السوري في رفضه لأي تفاوض جدي مع المعارضة، ولم تمانع في ذهابه إلى التفاوض غير مرة، لكنها استمرّت في تغيير الوقائع على الأرض، بينما بقيت هياكل المعارضة فاقدة للفاعلية تجاه هذا التوجه، وراحت تخسر -مع الوقت- أوراقًا عديدة، وصولًا إلى المأزق الراهن، حيث باتت العملية التفاوضية نفسها محل شك.