غادر عدد من السوريين في ثمانينيات القرن الماضي سورية، في إثر الأحداث السياسية التي سادت في تلك الفترة بين حركة الإخوان المسلمين والنظام، وكان خروجهم موقتًا، بحسب اعتقاد عديد منهم، آملين انتهاء سطوة النظام، وعودة الحريات والديمقراطية إلى البلاد، لكن ما حصل أن بقاءهم في شتات الأرض استمر عقودًا، مر خلالها أكثر من جيل.
لم تكن مغادرتهم -آنذاك- تشبه موجات النزوح واللجوء التي حصلت بعد اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، حين كانت الأعداد أقل بكثير، لكن معظمهم قصد دول أوروبا وأميركا، وحاول كل منهم الاندماج والتعايش مع المجتمع الذي وصل إليه بطريقته، وحسب ما أتاحت له الأحوال.
الاندماج في أي مجتمع جديد خطوة ليست باليسيرة دائمًا، وهي تتبع عوامل عديدة، متعلقة بالبلد المقصود، والشخص القاصد، وصفاته ومهنته، لكن مع خروج السوريين جماعات من جراء قصف قوات النظام مُدنهم وقراهم، ربما ستكون تلك الخطوة أقل عبئًا وأقصر مدة، وهذا ما دأبت عليه دول الاتحاد الأوروبي بأكملها، التي استقبلت السوريين في الآونة الأخيرة، وكانت تستقبل اللاجئين -سابقًا- من دول مختلفة، فالدول الأوروبية تُعدّ الخطط والبرامج لدمج القادمين الجدد في المجتمع، وأول خطوة تقوم بها هي إخضاعهم لدورات لغة؛ حتى يتمكنوا من المضي والتعايش في البلد الذي أصبحوا مواطنين فيه، ثم تأتي الخطوة الثانية، وهي إدخالهم في سوق العمل.
يوجد العدد الأكبر من اللاجئين السوريين في تركيا، إذ يقارب عددهم ثلاثة ملايين لاجئ، منهم أقل من عشرة بالمئة فقط داخل المخيمات، ويشكل هذا العدد كتلة مجتمعية كبيرة، تضم من الشباب والأطفال النسبة الأكبر، تلك التي يُعوّل عليها في بناء المستقبل.
ولأننا محكومون بالأمل، لابد من النظر لتلك الكتلة بعين الأهمية، فهي الشريحة التي ستسهم مستقبلًا في بناء سورية في أي لحظة يجري فيها الوصول إلى حل ينهي الصراع الدائر فيها، وهذا اليوم آت لا محالة، عاجلًا أم آجلًا. لكن حتى يحين ذلك اليوم، وتجد الدول الفاعلة في الملف السوري مخرجًا للشعب والبلد، لا بد لتلك الشريحة من المضي قُدمًا في طريق المستقبل.
الخطوة التي اتخذتها وزارة التربية التركية بجعل الطلاب السوريين يدرسون في المدارس التركية، مع رفع ساعات دراسة اللغة التركية، خطوة جيدة، من شأنها تسريع عملية الاندماج في المجتمع التركي عبر عملية تعليمية منظمة.
يطوي التوجه التركي الجديد وضعًا صعبًا، عاشه كثير من الأطفال السوريين الذين لم يتيسر لهم الالتحاق بالمدارس؛ لأسباب عديدة تتعلق بالحالة الاقتصادية، أو لعدم القناعة من جدوى المدارس التركية، وفي المقابل، لم تكن المدارس السورية محط ترحاب في صفوف السوريين؛ لارتفاع تكاليف التسجيل فيها، فضلًا عن المنهاج الذي كان يُدرّس، ولم يلق الاعتراف به من أي جهة، وبالتحديد منهاج الصف الثالث الثانوي، وهو الأكثر حساسية وأهمية للعبور إلى الجامعة.
وبالمقارنة مع دول أوروبا التي استقبلت أعدادًا ليست قليلة من السوريين، وهي التي تُخضع الأطفال وذويهم لدراسة لغاتها؛ لدمجهم في المجتمع دمجًا أسرع، فإننا نجد أن الخطوة التركية جاءت متأخرة، حيث إن عددًا كبيرًا من الطلاب تأخر في متابعة الدراسة، فيما آخرون لم يتعلموا اللغة التركية، وكانوا قد خسروا اللغة العربية الأم، ولا يدركون منها إلا النطق، أما أولئك الفتيان الذين دخلوا سوق العمل، فربما سنحت لهم الفرصة لتعلم اللغة التركية السائدة، لكن دون تعلم قواعدها تعلّمًا صحيحًا.
على الاغلب سيرجح ميزان الإيجابيات في الخطوة التركية، خاصة مع عدم نجاح تجربة المدارس السورية في تركيا، وإذا كان مهاجرو ثمانينيات القرن الماضي اندمجوا مع المجتمعات التي لجؤوا إليها، مع بقاء أمل العودة رفيق غربتهم طوال تلك السنوات، نجد أن المخاوف تتبدد، نوعًا ما، في تركيا، فمع الخطوات الجديدة في الاندماج لن تضيع الاجيال فرصة التعلم وتلقي معارف الحياة وامتلاك الأدوات التي ستُعينهم غدًا على بناء سورية التي هجروها مُكرهين، ويتكرر ذلك الأمل بوصفه هاجسًا رافق أولئك المهاجرين، وهو حلم العودة إلى سورية، دون معرفة إمكانية وزمن تحقيقه.