مقالات الرأي

إلى أين تمضي الثورة السورية؟

القاهرة، وبعد سبعة أشهر من اندلاع ثورة أطفال الجدران، كانت “الكعبة” التي حج إليها المؤيدون لها، طيرانًا من كل فج عميق؛ ليشهدوا منافع لهم!! لم يك بين الأطفال ابن شيخ أو ابن لص أو ابن ضابط كبير. كانوا أطفالًا ليس إلا، دفعتهم مشاهد رحيل الطغاة في تونس ومصر وليبيا على الشاشة الصغيرة؛ ليكتبوا على الجدران: (إجاك الدور يا دكتور). هذه العبارة تشبه كثيرًا بدايات التغيير في التاريخ: في البدء كانت الكلمة، اقرأ، اقرأ. كانت خلاصة فكرة عظيمة اسمها: ثورة. ثورة أطفال الجدران لم تك انقلابًا يهدف إلى تغيير زعيم بزعيم، وإنما كانت تشبه زلزالًا يقلب الأرض رأسًا على عقب. كانت ثورة من أجل تغيير كامل وشامل لمفهوم السلطة والحرية والحاكم والمحكوم والنظام والمؤسسات.

في ردهات فنادق القاهرة ذات النجوم الخمس، التقيت -بحكم عملي آنذاك في قناة سورية الغد- بعديد من الأفراد والشخصيات المتباينين في ثقافاتهم ومنطلقاتهم العقائدية والسياسية والفكرية. يبدو ذكر أسمائهم الآن بلا معنى، والأجدى أن نُرتّبهم ضمن مجموعات وأفرادًا: مجموعات تنتمي إلى أحزاب وطنية قديمة وعريقة ظلت مُعطّلة لخمسين أو أربعين أو ثلاثين سنة، وانضمت إلى الثورة فور اندلاعها؛ لكونها -في الأصل- أحزاب ثورية لها جذور عقائدية مثبتة في بيانات تأسيسها القديمة، والتي تحول لونها إلى الأصفر. مجموعات أخرى تنتمي إلى تيارات ظهرت خلال فترات من حكم الأسد الكبير، وقُمِعت، ثم أطلت برأسها من جديد بعد عام 2000؛ لتُقمع من جديد على أيدي زبانية الأسد الصغير، مثل إعلان دمشق، ومجموعة منتدى الأتاسي. وهناك مستقلون ذوو اتجاهات راديكالية (أصولية) متباينة الجذور والثقافة والتوجهات. أحد هؤلاء رجل حمصي متدين قدم لي نفسه على أنه قاد مظاهرات ضخمة في حمص، لكن حمصيًا آخر قال لي: احذره هذا محتال!!

كان بين حجاج الثورة إلى القاهرة شخص بدوي، استقر في شقة واسعة بحي المهندسين، وحين لبّيت دعوته وجدت في ضيافته عددًا من المناضلين القدامى المعروفين. كانت جدران الصالة مغطاة بالأعلام وشعارات الثورة بطريقة تشبه زينات النظام في عيد الفلاحين. جلس المضيف مسترخيًا على كرسي مَلَكي مُذهّب بثوبه الأبيض الناصع، معتمرًا كوفية وعقالًا، ولولا أننا نعلم بسوريته لحسبناه أميرًا سعوديًا، فقد كان شبيها بالملك عبد الله. بل كان يتماهى معه في كلامه المتقطع، وحركات يديه، وتعابير وجهه الباردة، ولهجته المغرقة في البداوة، وقال عن نفسه: أنا شيخ قبيلة ممتدة بين الحجاز والبادية السورية، ويتجاوز عدد أفرادها نصف مليون. بالتأكيد لم يكن الرجل يفقه معنى كلمة حرية، بوصفها مفهومًا يتجاوز القبلية والعشائرية. ومع حضور حركة الإخوان المسلمين بقوة، بوصفها فئة مُنظّمة مؤدلجة، تعرف ما تريد وتعمل عليه بذكاء وتقية، إلا أن مجموعات وأفرادًا مسلمين سلفيين حضروا بقوة أيضًا، وإن بدون تنظيم وتخطيط لما يريدونه من الثورة. أحدهم صرّح لي همسًا بأنه يُموّل جيشًا صغيرًا في مدينته؛ احتياطًا لهجوم قد يشنه جيش النظام عليها. وعندما سألته: هل يقوده ضابط من المنشقين الأحرار؟ أجاب: هم أبناء بلدي وأنا أعرفهم ولا أثق بغيرهم، وليس بينهم ضابط. وبالطبع لم أستطع ثنيه عن طموحه، فقد فتح صفحة على الـ “فيسبوك” تنشر صور جيشه وتدريباته. شخصان آخران ثريان أحدهما قدم من الخليج، وآخر من أوروبا ليجمعا أنصاراٍ لحزب جديد، وكان المطلوب -آنئذٍ- 100 عضو، يستطيع بعدها الحزب تمثيل نفسه بعضوين في المجلس الوطني.

في ذلك المجلس برزت شخصيات وطنية مناضلة مثقّفة، دفع بعضها نصف عمره في السجون، وكانوا ينتمون إلى محافظات وأديان وطوائف وقوميات مختلفة، كان أغلبهم قد ترك الوطن لا يلوي على شيء، ويعتمد في معاشه على ما يُرسله له أبناء بلده من الموسرين؛ هؤلاء لم يكن يجمعهم في السابق تنظيم، وأملوا في المجلس أن يكون واجهة ثورة الحرية، والناطق باسمها، لكنهم لم يصمدوا شهورًا أمام سيطرة حزبٍ منظم مؤدلج على قرار المجلس، بوصفه الأكثر خبرةً وغنىً وصاحب رؤية. انسحب المناضلون المثقفون وبقيت المطايا التي يغريها المال والشهرة أكثر من حبها للحرية والوطن. من خلال ذلك المجلس والائتلاف الذي تبعه، وبالتعاون مع بعض الدول الداعمة جرى تهميش مئات الضباط الأمراء المنشقين، وآلافا من الضباط وصف الضباط والجنود. وخلت ساحة الحرب -رويدًا رويدًا- للأتباع والمرتزقة، ولمن أطلقهم النظام من سجونه؛ لينشئوا فصائل وفرقًا بأعلامٍ ومسميات دينية عمرها أربعة عشر قرنًا. وهكذا؛ بعد ستة أشهر من قيام ثورة مدنية قوامها الشباب الواعي بالدرجة الأولى، وعُدتُها دعم كبار المفكرين والفلاسفة والسياسيين والأكاديميين، ومعظم الشباب الذي عانى من القمع والاضطهاد ومصادرة الحرية، بدأ الحلم بدولة المواطنة والتعددية والكرامة يتقلص إلى إعادة ترتيب مقاعد المجلس الوطني وزيادة عددها وحسب، وإلى المحافظة على ما تبقّى من التنسيقيات التي صمدت، وإلى محاولة تجميع شتات المقاتلين تحت علم واحد. لقد اكتشف طلاب الحرية خلال السنوات الست التي ستنتهي في آذار/ مارس المقبل، عمق التخلف الحضاري وعمق تأثير الميثيولوجيا الإسلامية في أوساط الشعب الثائر؛ ما يعني فهمهم المختلف لمنطلقات الثورة وأهدافها، وأصبحت مهمة النخبة الواعية إعادة قراءة الواقع الذي كشفه الحراك الثوري، ورسم خطة مبتكرة للبدء في ثورة تنويرٍ للعقول المعتمة، وتصويبٍ لمسار الثورة؛ كي يصبح تحقيق حلم دولة الحرية قابلًا للتحقيق، ولو بعد سنوات جديدة مقبلة.

مقالات ذات صلة

إغلاق