روى صديق لي حادثةً جرت في بيروت عام 2014. وبغض النظر عن حدوث الواقعة أم لا، دلالتها هي الأهم.
قال صديقي: رجلٌ حلبي أربعيني، كان يسير في أحد شوارع بيروت الفرعية، في حدود الساعة التاسعة مساءً. كان الرجل يتحدث من جوّاله، بلهجته الحلبية المحبّبة. يبدو أنه من صغار التجّار الحلبيين، يدور حديثه حول مصير محلّه وتجارته في مدينته، يسأل بلهفة، ويرد على أسئلة محدّثه، بصوت عال، بعفوية وطلاقة ابن بلد، دون أن يشعر أنّ حديثه أو لهجته قد تسببان له أذىً ما، أو مشكلة ما مع أحد، هو لا يفعل شيئًا مؤذيًا، ولا يزعج أحدًا، كل ما هنالك يتحدّث في الطريق من جوّاله، عن تجارته المهدّدة بالضياع في مدينته، بلهجته الحلبية الصريحة.
ومن سوء حظه، أنه مرّ أمام ثلاثة شبان، يقفون في مدخل بناء في ذلك الشارع الفارغ، المعتم. حين سمع الشبان لهجته، تهامسوا فيما بينهم، يبدو أنهم أرادوا التسلية، وتزجية الوقت، ووجدوا ضالتهم في هذا الرجل، دون أي اهتمام لكرامته، أو مشاعره بوصفه إنسانًا، لم يحسبوا حسابًا لردّ فعله المحتمل. في كل الأحوال هم ثلاثة، وهو واحد، بالتالي؛ لن يجرؤ على فعل أي شيء.
لعل الدافع الخفي لسلوك أولئك الشبان، هو ذلك الشعور العنصري بالتميّز، الذي بات يشعر به بعض اللبنانيين (أقول بعضهم) نحو اللاجئين السوريين في لبنان.
لحق الشبان الثلاثة بالرجل الذي ما برح مسترسلًا في حديثه. صرخ به أحدهم بصوت جهوريٌ آمر: “قف ولا…. هات هويتك”.
قال الرجل لصديقي: لا أعرف، لماذا في تلك اللحظة ركضت هاربًا. نعم ركضت كأني لصٌ، أو مرتكب لجريمة، فجأةً سيطر عليّ ذلك الخوف الذي طالما زعزع كياني، لم أتمالك نفسي من الارتعاش فركضت، تناهى إلى مسامعي، وأنا أركض بعيدًا عنهم، صوت انفجار ضحكاتهم، فوقفت بعد أن تقطعت أنفاسي، وكاد قلبي يقفز من بين أضلاعي، لم تؤلمني لحظتها ضحكاتهم الساخرة، بمقدار ما آلمني حضور ذلك الخوف الدفين، المعشش في داخلي، وإحساسي أني مجرد كائن ضعيف هش لا حول ولا قوة له.
سألت نفسي: لماذا ركضت هاربًا؟!
لماذا خفت، وممّ أخاف؟!
عندئذ أجهشت في بكاء شديد المرارة، أدركت أن الإنسان حينما يعيش طوال حياته في بلده ذليلًا مهانًا، فهو لا قيمة له في أي مكان آخر، يشعر في العمق العميق أنه كائن هشٌ، ضعيفٌ، مهيض الجناح. أنا وكل أبناء جيلي وُلدنا وعشنا في ظلّ نظام القمع والاستبداد في سورية. تعوّدنا الخوف والصمت، وعشنا كلّ حياتنا نكبت قهرنا بإذعان، اكتشفت أنني لم أتحرر من الخوف، وأن تلك اللحظة هي كل ما كنت عليه طوال حياتي.
أضاف الرجل: لا يعرف هؤلاء الشبان –بالتأكيد– قصة الأغنية الشهيرة “عالروزانا”، لو أنهم يعرفون –لربما- لم يفعلوا بي ما فعلوا، لا يعرفون أن تجار حلب هم من أنقذوا مدينتهم بيروت، أيام الاستعمار العثماني من الإفلاس والانهيار، حينما أرسلت السلطنة العثمانية باخرة “الروزانا” محمّلة بكل أنواع البضائع، وأنزلتها إلى أسواق بيروت بأسعار بخسة، كي تضرب اقتصاد المدينة، وتعاقب سكانها، فاجتمع تجار حلب وقرروا شراء كل البضائع اللبنانية الكاسدة، كي ينقذوا إخوانهم، وبذلك أفشلوا المخطط العثماني، ربما لا يعلمون أن تلك الأغنية الحيّة هي تحية وفاء لتضامن حلب مع شقيقتها بيروت.
حلب أم المدائن –كما كل سورية– تُسحق، وتُدمّر بأسواقها، وأوابدها، وحضارتها منذ ست سنوات بوحشية لا مثيل لها، والعالم كله يقف متفرّجًا، دون أدنى حس أخلاقي. الكل مسؤولٌ عن هذه الجريمة البشعة. القيصر الصغير يناكف خصومه لاستعادة أمجاد إمبراطوريته بدماء السوريين وأشلائهم؛ الملالي وحرسهم الثوري رفعوا راية الحسين، ومظلومية كربلاء لتحشيد أدواتهم الشعبوية، وعينهم على إحياء أمجاد فارس. حفيد الخليفة العثماني طموحاته ليست بعيدة عن استعادة أمجاد الخلافة، ناصر ثورة السوريين، وها هو يعقد الصفقات من تحت الطاولة، حينما اهتز ميزان الربح والخسارة، فمال إلى حيث مصالحه، على حساب دماء السوريين وكرامتهم. عقدة بعض أهل الصحراء، كانت وما تزال حواضر المدن في بلاد الشام وعراقتها، إذ على الرغم من الأبراج، وناطحات السحاب، والجسور التي بنوها من عائدات نفطهم في “مدن الملح”، ظلت مدنهم تفتقر إلى الروح الموجودة في الحواضر الشامية، لذا؛ قبل غزوهم للحواضر الشامية بالمال السياسي، والسلفية الجهادية، غزوها بالإعلام والفكر الوهابي؛ كي تصبح على صورتهم، وفي سياق خوفهم من تمدّد نفوذ ملالي فارس. خاضوا بدماء السوريين حرب الوكالة، ثم انخفض صوتهم، وكاد يتلاشى حينما اكتشفوا أن حليفهم في البيت الأبيض له حسابات أخرى، تصب في مصلحة “إسرائيل” مدللته الأولى في المنطقة.
تكمن المعضلة الكبرى في السوريين أنفسهم (سلطةً ومعارضة)، إذ يتحمّل نظام الاستبداد المسؤولية الأولى، حينما ردّ على ثورة السوريين السلمية المطالبة بالحرية والكرامة بالحديد والنار، وأدوات العنف المرعبة، ومن ثم شيطنها، ودفعها دفعًا باتجاه العسكرة والتطييف، وهو المسؤول عمّا آلت إليه الأمور، في ما بعد، مع فتح أبواب البلاد للتدخلات الخارجية. في المقابل لم تكن المعارضة على مستوى الحدث الكبير؛ إذ مع تفاقم تعقيدات المسألة، ودخول المال السياسي، بدأت تتشظى، وتخضع -بدورها- للأجندات الخارجية ومصالحها المتناقضة، التي أفضت إلى تشكيلات جهادية مسلحة من كل الألوان، تناسلت بالعشرات، في المحصلة، أمسى الشعب السوري وثورته رهينة بين مطرقة الاستبداد، وسندان الإرهاب، وسواء انتصر هذا الطرف، أو ذاك، فالخاسر الوحيد هو الشعب السوري، ودماء أبنائه، وعمرانه، وإجماعه.
ماذا ينتظر السوريون لو انتصر الجهاديون؟! هل ينتظرون طالبان أخرى، أو تشكيل إمارة إسلامية، أو خلافة إسلامية متشددّة؟!
ماذا ينتظرون من نظام الاستبداد الذي ينتشي الآن، هو وحلفاؤه من انتصارهم الخلّبي في حلب. ثم على ماذا انتصر؟! على دماء وأشلاء وعمران شعبه! هل هذا هو الانتصار بعد أن فعل ما فعل من جرائم، ليس اليوم فحسب، بل خلال خمسين سنة ماضية؟!
يبقى القول: إن سورية الحلم، سورية المستقبل، كما نشتهي، هي دولة المواطنة والحرية والمساواة، دولة القانون التي تحترم حقوق جميع أبنائها، دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس؛ تلك الأهداف النبيلة لن تخبو، على الرغم من آلام المخاض. علينا أن نعترف أن الطريق إلى الحلم مازالت بعيدة. لا بد من إعمال العقل النقدي في النظر إلى المشكلات المعقدة، بعيدًا عن جلد الذات، والعواطف والانفعالات السطحية.