إذا كانت الأحلام تنتج عن الصراع النفسي بين الرغبات اللاشعورية المكبوتة والمقاومة النفسية التي تسعى لكبت تلك الرغبات، يلعب الحلم دور “حارس النوم”، بحسب تحليل فرويد، فإن حارسي -ليلة البارحة- نسي أن يرنّ الجرس.
لم يقم بعمله كما يجب. تقدم لنا الأحلام في كثير من المرات حلولًا، وتعمل على إرجاع شيء من التوازن إلى شخصياتنا، بحسب التحليل النفسي. لكن ذلك لم يحدث.
أواخر صيف 2012، في حي من أحياء دمشق الجنوبية -حيث بيت أهلي-، سقط صاروخ على مبنى ملاصق لنا، أضاعت يومها زوج أخي رضيعها وخرجت صارخة من بين الغبار: ولدي، ولدي. رجعت أمي وأحضرت الصغير من فراشه. مضت السنوات وكبر الولد وظلت هذه القصة محل تندّر لنا؛ كيف أن رهبة الموت -كما يقال- “غلاة الروح” قد أنستها صغيرها الذي ينام في حضنها.
البارحة كنت أراني في الحلم أساقُ إلى الموت مع المئات، يحاصرنا القتلة من كل جهة. أرتعد ولا أفكر إلا في شيء واحد، إذا ما رفعتُ رأسي وسقطت عيني في عين أحد هؤلاء الجنود سيختارني حتمًا، وتكون نظرتي بمنزلة أمرٍ له: ركّز ثم صوّب.
يتذكر القاتل فقط نظرة القتيل، يقول أحدهم: لو أن المقتول امتلكها -حين كان حيًّا- ما كان قتل. أقول يبقى ذلك حلمًا.
دراسة الأحلام وجدت أثارًا لها على الألواح الحجرية التي ترجع إلى سومر. سومر أقدم حضارة عرفتها البشرية، واعتقدت بعض الشعوب -مثل الإغريق- بأن الأحلام هبة من الآلهة، لكشف معلومات عن البشر، وزرع رسالة معينة في عقل الشخص النائم.
فأيّ رسالة تلك التي خصتني بها الآلهة وأرادت زرعها في عقلي، وأنا ماضية جهة الموت. إذا كان الموت هو فن، مثل أي شيءٍ أخر؛ يبدو كالجحيم، وقد يبدو حقيقة كما تقول (سيلفيا بلاث)، إذن؛ فمبقدورنا أن نلمس هذه الحقيقة ونتحاور معها كما حاورها محمود درويش. سلسلة التخيلات التي تحملها الأحلام، وتأتي في أثناء النوم، تختلف في عقلانيتها وترابطها. هي وسيلة تلجأ إليها النفس لإشباع رغبات مكبوتة. خاصة تلك التي يكون إشباعها صعبًا في الواقع. كيف تُشبع الموت واقعيًا؟!
هل كنت أبحث عنه؟ في الأحلام يشاهد الإنسان رغباته وقد تحققت -بشكل أو بآخر- في صورة أو مسار أو موقف معين، لكن الرغبات في الأحلام شاحبة مواربة؛ بحيث لا يعي الحالم نفسه فحواها. لذلك يرى كثير من علماء النفس بأن الأحلام شبيهة بتفكير المجانين.
إذن؛ ماذا لو أصابني مَسٌّ ما، وأردت أن أمضى دون وصايا، ومن دون أن “أتحدث عن الأزهار الجميلة، وحولي كل هؤلاء البشر يقتلون!؟”
أمضي، وحقيقةً حدث هذا من دون أن أعي بأنني أمّ لطفلين. لقد نسيت وأنا أساق إلى الموت بأنني أمّ. تمامًا كما حدث مع زوج أخي، مع فرق في التوقيت! أنا نسيت الآن بعد خمس سنوات من القتل، وهي نسيت بعد أشهر قليلة على بدء المحرقة السورية. لم يكن لدي ذاكرة، في تلك الأجزاء من الثانية التي تشكل أكبر الأحلام حدثًا. كل الذين تحدثوا عن عودتهم من الموت، تحدثوا عن الروح حين تبقى، عن الجسد البارد المسجى. تحدثوا عن الروح تراقب وتسمع.
لكن أن تعيش تجربة بانتظار ثانية الموت -تلك اللحظة- بين نظرتك ونظرة قاتلك، حواسك، ماضيك، مستقبلك. أنتَ وهو. هو قاتلك لا محال. أنت أعزل وأبيض. تشف وتشف لكنك تُرى ولا تَرى.
وهكذا تموت دون ضحكة من تُحب، وجه أمك، لا أصدقاء، لا حبيبات، وحيدًا، ومعك كل هذا الحشد من المقتولين. لذلك -ومن الآن- علينا ألّا نحزن لموت من ينظر في عيني قاتله، لأن لا ذاكرة ستكون معه!
لن يحمل وجوهنا أو ضحكاتنا، شجاراتنا. سيموت ومعه وجه واحد فقط، وجه الدم.
أسأل الآن:
يا رب كيف مات كل هؤلاء السوريين طوال السنوات الخمس الماضية بلا ذاكرة؟
2 تعليقات