هموم ثقافية

في الجدل المثار عن المصري وعبدلكي

حادثتان ثقافيتان مرّتا في الأسابيع الأخيرة، وأثارتا نقاشًا حادًا. افتقر النقاش إلى القدرة على استيعاب الآخر. كرّر القضية المعروفة: الآخر ليس من ثقافتنا، وثقافتنا قائمة على الإلحاق والزعامة والعبودية، وبالتالي؛ يندر أن يكون الآخر على صواب.

الحادثتان، هما مقالة للشاعر السوري، منذر المصري، بعنوان “ليتها لم تكن”، وإقامة الفنان السوري يوسف عبدلكي معرضًا للوحات تمثل نساء عاريات في دمشق. انقسم القوم بين مؤيّدٍ ومكفّرٍ. تعلقت الأنظار بالشكل والاسم والتوقيت أكثر من المضمون والقيمة والثقافة والألم والفقد. الحادثتان ليستا بالشأن القليل، فمُنذر يناقش قضية مآلات ما جرى بسورية، وعبدلكي يريد القول إن الثقافة يجب أن تدافع عن نفسها في دمشق، ولا يجوز بحال من الأحوال إخلاء سورية بشحمها ولحمها للنظام أو للمتدخلين بسورية. وعكس ذلك، هناك تسييس الثقافة وكل مناحي الحياة، حيث الثقافة -كما كل شيء- يجب أن يتوقف في سورية لحين إسقاط النظام، أو فليعلن المثقف في كل أعماله، موقفًا واضحًا من النظام، وربما فليكن في أول مقاله أو على كل لوحة من لوحاته “الشعب يريد إسقاط النظام” و” فليرحل الرئيس”. هناك طائفة من المثقفين والمعلقين كانت أقرب للموضوعية، وقالت لو أن عبدلكي أَخرَ موعد المعرض وهذا الرأي يتضمن وجاهة معقولة، حيث كان أهالي حلب يُقتلون ويُهجرون.

هناك رأي يقول إن الثقافة هي السور الأخير ما قبل سقوط المجتمع. وللحق؛ فإن ما يجري من نقاش -استعرضنا بعضًا مما يدور فيه- يُشعر المتابعين أن سورية ليست بخير أبدًا، وأن الدمار والخراب دخل الثقافة كذلك. صحيح أنه ليس لدينا تقاليد في الحوار والجدل، ولكن ما نقرؤه ونتابعه يعود بنا إلى ما قبل كل مفهومات الحداثة عن الآخر، وفي هذا ما قاله مرة المفكر جورج طرابيشي، سليم تمامًا، فالردّة تعود بالعرب إلى ما قبل عصر النهضة، وليس إلى عصر النهضة! ما يُقرأ على صفحات الفيس بوك -مثلًا- من شتائم بخصوص الحادثتين وسواهما يوضح الفكرة السابقة.

موقف المثقف يتجلى من خلال موقفه، فإن أعلن انحيازه للنظام، إلى أي من أركانه، سنقول حينئذ إنّه باع روحه للشيطان، وأمّا سوى ذلك من مواقف، فإنّها تصنف في حقل الإبداع والإنتاج الفني؛ وهذا ما لا يبطل، سواء أكانت البلاد بحالة ثورة أم حرب أم احتلال أم نظام شمولي كالنظام السوري. وطبعًا يسقط كل رأي يقول بأن ذلك المثقف -مبدع الجمال- يُعزّز من السلطة الشمولية ويمدُّها بأواصر الحياة. ونضيف في هذه النقطة، أن الفن والإبداع الفني يعبّر عن رؤيته لكل قضايا المجتمع، وفق مفاهيم الفن، وليس وفق مقولات السياسة.

انقسم مبدعو الثقافة والفن بسورية منذ بداية الثورة، فهناك من حدّد موقفه مؤيدًا للنظام، وهناك العكس، وظهرت مشكلة بالغة الحدة، تتمثل في ضعف الإنتاج الفني والثقافي السوري عامة، الإنتاج الذي يقارب الوضع الجديد في سورية. وأية مراجعة لكثير مما ظهر من أبحاث وكتب وشعر ورواية ومسرح وإنتاج تلفزيوني وسينمائي، وسوى ذلك، سيوضح أن ذلك الإنتاج ظل هامشيًا، وتمحور قسم منه حول تجارب ذاتية، واقعية أو متخيلة، وبالتالي تأخرت الثقافة السورية عن طرح قضايا الواقع المتغير قبل 2011، وبعدها كذلك. الثقافة التي ظهرت أقرب للسياسة.

وبالعموم لم تلعب دورًا مهمًا طيلة السنوات المنصرمة. طبعًا هناك فهم متعدد للثقافة ذاتها، لقضاياها ورؤاها ودورها ولطرق التعبير عنها.

أصبح من المتعارف عليه، أن لا ضفاف للثقافة، وأنّ كل ضفافٍ وُضعت من قبل سقطت وكانت أقرب إلى الشروط السياسية، وأعاقت تطورها؛ وإذا كانت الثورة تُحطم النظام القديم -بكل مستوياته- فإن الجدال السوري يتناول كافة أوجه الحياة وحتى الثورة ذاتها، إن كانت كذلك أم انتفاضة، أو خاصة بطائفة معينة وهكذا… لا يمكننا حسم هذه المسائل ولا تحديد أيها الضروري وأيها النافل والهامشي، ولكن هناك معيارٌ أوليٌّ عادة يعدّ هو الأساس بعيدًا عن الأدلجة، ألا وهو إن الثقافة إمّا أن تطرح قضايا المجتمع الأساسية أو تنحاز إلى قضايا هامشية، وحينها تصبح أقرب للمشروعات الخاصة الرابحة.

أخيرًا، تتطلب سورية حفرًا معرفيًا، نحو إعادة انتاج الهوية الوطنية، تلك الهويةُ التي تشظّت بشكل كبير، ولاسيما أن السياسة في أسوأ حالاتها، وحيث تظل الثقافة الركيزة الأساسية للمجتمع بأكمله. مجتمعاتنا تتذرر وتتبعثر وليس من نجاة دون الوطنية كأساسٍ لمختلف مشروعاتنا الثقافية والسياسية وسواها.

المثقف يعمل بشروط الحرية غير المقيّدة، وبتعذر وجودها فإن الوقوف مع الأدباء والمثقفين هو الأساس، وهذا لا يلغي الحق المطلق بنقد إنتاجهم، بل إن النقد يعدّ شرطًا أساسيًّا لتطور ذلك النتاج، وهذا حديث مختلف عن وظيفة هذا المقال، والمحددة في رفض كل شروط سياسية ضد الثقافة والأدب بجميع أشكالها.

مقالات ذات صلة

إغلاق