من المعروف أن انتهاكات تنظيم الأسد لحقوق الإنسان عبر عقود، وما ترتب عليها من تداعيات كارثية، شكّلت الركن الأساس في عملية انهيار المجتمع السوري، ووقوعه في براثن فوضى، كان من أهم نتائجها تمزيق منظومة القيم التي كانت سائدة بمختلف أشكالها ومسمياتها، كما نتج عن ذلك تحول المجتمع إلى مجتمع عاجز عن تحقيق أبسط مقومات الحياة للإنسان السوري، بعد أن باتت بنية المجتمع ركيكة ومفككة في تشكيلاتها، لا تمتلك أطراً تُعبّر فيها عن تطلعاتها وطموحاتها وآمالها، بسبب ثقافة القهر والاستبداد، وتعطيل ثقافة الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية، وكل ما يمكن أن يضع المجتمع في المسار الطبيعي للحضارة الإنسانية.
من هنا؛ يُمكن القول إن من أكبر النتائج المأسوية التي تعرّض لها المجتمع السوري بسبب الاستبداد، ومن ثم خلال السنوات الأخيرة، بسبب القتل والتهجير وقصف المدن، واستقدام الميليشيات الطائفية من إيران والعراق ولبنان، والتنازل عن مقدرات سورية للمافيا الروسية مقابل البقاء في السلطة، هي تحوّل المجتمع السوري لمجتمع هش، ضعيف البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بفعل سياسات الاستبداد الممنهجة.
لهذه الأسباب وغيرها، حاولت الثورة السورية نسف المنظومة القيميّة التي جذّرها نظام الاستبداد في المجتمع، في محاولة لجعل كل القيم والنظم الأخلاقية والتربوية للشعب السوري خاضعة لمعاييرها، أو بأدق لمعايير المجتمع المدني الحديث، بما ينسجم مع أطروحات الثورة عن الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، فألقت الثورة بظلالها على مجمل البناء القيمي السوري في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة.
إن استمرار أي نظام سياسي مُستبد لفترة طويلة من الزمن، وترسيخ مؤسساته السياسية والأمنية، لا بد أن يؤثر في تكوين النظام القيمي للمجتمع، وتغيير هذا النظام القيمي -ولا سيما إذا كان التغيير مصاحبًا لفعل الثورة- سيؤدي إلى تغيير في المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
المستقرئ لواقع المجتمع السوري قبل الثورة يجد أن النظام القيمي للمجتمع لم يكن بمستوى الطموح من أجل التمسك به أو الدعوة إليه، فقد شهد الشعب السوري من السلبيات والانتهاكات ما يدعوه إلى تغييره، بل إلى نبذه والثورة عليه جملة وتفصيلًا، ولا سيما بعد أن ثبت أن هذا النظام القيمي غير قادر على تحقيق أي تقدّم وازدهار للسوريين ومجتمعهم.
انطلقت الثورة لتغيير واقع الحال، ونجحت في أن أحدثت كثيرًا من التغيير في وعي المواطن، الذي أصبح يشعر بحقّه في هامش واسع من الحرية، وخاصة حرية التعبير عن الرأي، ولا سيما بعد أن كُسِرت قيود كثيرة، وبرزت على الساحة السورية عشرات الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والتنظيمات النقابية، وكثير من وسائل الإعلام التي تُناصر الحرية والديمقراطية وتُشجّع على التعبير عن الرأي، وتفسح المجال لكل الآراء.
هذه الصيرورة التي تمر بها سورية اليوم، ترافقت مع إحداث تغيير إيجابي في منظومة القيم السورية عامة والسياسية على وجه الخصوص، ومما يستحق الإشارة إليه أن أولى وأهم القيم التي استهدفتها الثورة وكشفت زيفها هي القيم السياسية، التي كرّسها نظام الطغيان بالتخويف والترهيب، فقد بات السوري يعرف أن الحرية تُنتزع ولا تُمنح، وأن العدالة لا بد من أن تتجسد وتتحقق للجميع، وأن الكرامة الإنسانية حق من حقوق الإنسان، فضلًا عن نجاح الثورة في زعزعة ثقة السوري بقيادته السياسية التي باتت عاجزة ومفككة، قيادة لم تخرج يومًا عن التفكير بطريقة (ثيوقراطية) القرون الوسطى في أوربا في نظرتها إلى المجتمع والسياسة؛ ما قسم المجتمع طائفيًا، وحطم الصورة الهشة عن المواطنة في جامعها المشترك، وأصبحت -بالتالي- حاجة المجتمع السوري إلى قيم الثورة ضرورة، لا بد من تجسيدها في فضاءات المجتمع اليوم قبل الغد.