يشعر طيف كبير من السوريين، وفي طليعتهم شريحة واسعة من الإسلامويين، بحالة من الخذلان التي نجمت عن الموقف التركي الأخير تجاه سقوط حلب. وعلى الرغم من وجود مؤشرات عديدة إلى أن الموقف التركي كان يمضي بهذا الاتجاه، إلا أن ملابسات موقع تركيا من المسألة السورية جعلت كثيرين يُنكرون حتى اللحظة الأخيرة إمكانية تخلي الأتراك عن حلب، خصوصًا أن تركيا عبر احتضانها لأكثر من مليوني لاجئ سوري، واستضافتها لطيف واسع من المعارضة السورية، شكلت أنموذجًا مختلفًا عن دول الجوار الأخرى، مثل لبنان، والأردن، أو بعض الدول العربية الأخرى التي وضعت كثيرًا من العراقيل تجاه السوريين.
في هذه اللحظة من التطورات الميدانية لمصلحة النظام وحلفائه، يبدو من الطبيعي إعادة النظر في بنك الأهداف التركي في سورية، والكشف عن ملامح السياسات التركية المستقبلية، لما تُمثّله تلك السياسات من أهمية لمستقبل العملية السياسية في سورية، أو لمصير سورية نفسها، بوصفها جغرافيا واقعة تحت سيطرة قوى خارجية وداخلية متعددة، تجمع بين بعض الفرقاء فيها بعض المصالح، وتفرقهم مصالح أخرى، ولتركيا تأثير مهم على أهم الفصائل المساحة في الشمال والشمال الشرقي من البلاد، فهي الرئة الوحيدة التي تتنفس منها الفصائل المسلحة الإسلامية.
لقد سادت في كثير من التحليلات، بما فيها التحليلات الغربية، فكرة مفادها أن الملف الكردي هو الأهم والملف الرئيس الحاكم لمواقف تركيا من المسألة السورية، وأن صناع القرار في تركيا يمكن أن يُقدّموا تنازلات عديدة في الشأن السوري، مقابل عدم قيام فيدرالية كردية في الشمال السوري، وبالتالي؛ فإنهم موافقون على أي رؤية روسية للحل السوري إذا ما ضمنوا تعاون الأطراف الفاعلة الأخرى في ما يتعلق بالموضوع الكردي.
بالطبع، لا يمكن إنكار أهمية الملف الكردي في وجهة النظر الاستراتيجية لصُنّاع القرار الأتراك، لكن من الخطأ عدّه وحده يُشكّل وجهة النظر تلك، فمصالح الأمن القومي التركي أكبر بكثير من الملف الكردي؛ إذ إن التوافق مع روسيا في إيجاد حل في سورية، يكشف عن توجهات جديدة لتركيا في علاقتها مع الغرب عمومًا، وخصوصًا مع الولايات المتحدة الأميركية، من دون المجازفة بالذهاب بعيدًا إلى استنتاجات مُبكِرة حول ما يمكن أن تؤول إليه العلاقات التركية مع الأطلسي، بوصفه القوة العسكرية الأهم في العالم، وتهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية.
عند هذه النقطة، يجب علينا أن نتذكر -على الدوام- أن المحطات العديدة التي مرّ بها حزب العدالة والتنمية منذ استلامه الحكم تكشف، بوضوح تام، مدى البراغماتية التي تمتع بها، وقدرته على القيام بتحولات غير متوقعة في مواقفه، ويمكن أن نُعدّ التحولات التي شهدها الموقف التركي من روسيا، خلال العام الماضي، أحد أهم الدلائل على تلك البراغماتية، حيث تمكّن رجب طيب أردوغان، خلال مدة زمنية قصيرة، من الانتقال من موقع المواجهة إلى موقع التعاون، وبدا أكثر تفهمًا للموقف الروسي في سورية.
إن الحدود الجنوبية لتركيا التي تمدد فيها النفوذ الإيراني بعد سقوط نظام صدام حسين، باتت مصدر قلق للاعب التركي، وأتى انسحاب القوات الأميركية من العراق؛ ليزيد من ذلك النفوذ، وليجعل من إيران القوة الأهم في الساحة العراقية، وقد شكّل دعمها لنظام الأسد فرصة كبيرة لها؛ كي تتغلغل في سورية، وأتاح لها -للمرة الأولى- أن تمد نفوذها من طهران إلى شواطئ المتوسط، وهو ما يشكّل تهديدًا استراتيجيًا للأمن القومي التركي، ويجعل من حدودها الجنوبية خاصرة رخوة، يمكن استغلالها من إيران، حين يكون ذلك مفيدًا لصانع القرار في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
إن بنك الأهداف التركي تجاه سورية، لا يمكن فصله عن الساحة العراقية، طالما أن إيران باتت لاعبًا مهمًا في الساحتين: السورية والعراقية، ومن الضروري للأتراك ضبط سلوك اللاعب الإيراني، وتحجيم نفوذه، وهو ما لا يمكن أن يجري من دون لاعب دولي، تُمثّله روسيا في اللحظة الراهنة، وهو الأمر الذي يلتقي مع الأهداف الاستراتيجية لروسيا، الطامحة إلى لعب دور مهم في سياسات الشرق الأوسط، وبالتالي؛ فإنها مستعدة للتعاون مع تركيا في تحقيق هذا الهدف الحيوي الذي يخدم الطرفين.
تدرك تركيا أن مسار الحل السياسي في سورية ما زال طويلًا، وأن طريقه سيكون مفخخًا بكثير من الألغام، وقد يُفضي هذا المسار، وفقًا لأحد السيناريوهات، إلى تقسيم سورية، وبالتالي؛ فإن رسم حدود هذا التقسيم يحتاج من تركيا الاستعداد لمثل هذا السيناريو؛ لضمان أكبر قدر من المصالح الحيوية، وإلى ترتيبات مع اللاعبين: الروسي والإيراني، ولا يمكن بناء مثل هذه الترتيبات من دون أن تكون تركيا موجودة في المسار السياسي، آخذة في الحسبان ما يمكن أن ينجم عنه من مآلات.
إن إعادة بناء منظومة الأمن والاستقرار في المشرق العربي هي الهدف الاستراتيجي البعيد لتركيا، وهي تُدرك أن الاستقرار في المشرق سيحتاج إلى ترتيبات كبيرة، ولا يمكن أن يحدث من دون انخراط متعدد المستويات، ومنها الانخراط في المسار السياسي، فما لا يمكن ربحه بالحرب حينًا، يمكن إدراكه بالسلام، خصوصًا عندما يكون الطرف الفاعل قادرًا على خلط الأوراق من جديد، حين لا تحقق اللعبة غاياته.
تعليق واحد