دخل اتفاق وقف إطلاق النار في سورية حيز التنفيذ منتصف ليلة الجمعة 30/ 12/ 2016، بعد جولات من المفاوضات والمشاورات برعاية روسية تركية، ومشاركة، على مضض، من إيران، والتي تبدو غير راضية عما يحدث، لكنها مجبرة على القبول طالما أن الأمر يتعلق بروسيا التي باتت تمسك بزمام الأمور، إذ لا تريد طهران أن تصطدم مع الروس، بل إنها لا تضع هذا الاحتمال في حسبانها على الإطلاق، طبعًا يجب ألا ننسى أن نظام دمشق تلقّى الأوامر أو التعليمات الروسية حول الاتفاق وبنوده وساعة تنفيذه؛ فسارع إلى إرضاء جمهوره بإعلانه ظهيرة الخميس، ومن خلال بيان تلاه المتحدث باسم القوات المسلحة، عن قرار بوقف الأعمال القتالية، دون أن يشرح لذلك الجمهور أي تفاصيل إضافية أو مسوغات تنقل المشهد من حال إلى حال، بعد أن كان هدد وتوعد في أوقات سابقة بأن معركة حلب وانتصاره المزعوم فيها سيجعل الطريق معبدًا أمامه لفرض سلطته من جديد، كل هذا لم يعد مهمًا الآن على ما يبدو؛ فالعالم كله يُدرك أن نظام دمشق ليس سوى أداة بيد الروس يحركونه كيفما يشاؤون، وتحديدًا منذ أن استدعت موسكو رأس النظام خلال شهر تشرين أول/ أكتوبر 2015، وما حمله ذلك الاستدعاء من دلالات وتأويلات صبّت كلها في خانة أن بشار الأسد لم يعد سوى جندي يأتمر بأمر الرئيس الروسي، وهو لن يكون قادرًا على مناقشته في أي تطور سوف يطرأ لاحقًا، أيًا يكن ذلك التطور وأيًا تكن مسوغاته، وقد اكتملت الصورة تمامًا في أعقاب قيام وسائل الإعلام الروسية بتسريب مقطع الفيديو للقاء الذي جمع رأس النظام بوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو منتصف كانون الثاني/ يناير من العام الفائت، لكن كل ذلك يبدو طبيعيًا حتى الآن، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان الثقل الذي تمثله روسيا على الساحة الدولية بوصفها واحدة من القوى العظمى الفاعلة في المشهد الدولي، بل تكاد تكون الوحيدة في ظل التراخي الذي شهدته إدارة الرئيس أوباما، والعجز الكلي لنظام دمشق وجميع الميلشيات الطائفية الموالية له عن تحقيق أي حسم حقيقي خلال خمس سنوات تقريبًا سبقت التدخل الروسي.
على الضفة الأخرى، تبدو قوى المعارضة المعروفة، سواء الممثلة في الهيئة العليا للمفاوضات أم تلك التي تنضوي تحت مسمى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة التي يقيم غالبية أعضائها في تركيا، في حال لا تحسد عليها، فهي اعترفت بلسان عدد من وجوهها البارزة بأنها لم تكن تعلم ما يدور، وقد تابعت شأنها شأن الملايين من السوريين تفاصيل الاتفاق عبر وسائل الإعلام، بعد أن كانت أقصيت كليًا عن الحضور أو المناقشة، والمساهمة في الوصول إلى تلك الهدنة التي ينتظر أن تفضي -لاحقًا- إلى محادثات سلام تشهدها العاصمة الكازاخية أستانة، خلال شهر كانون الثاني/ يناير الحالي، بل إن المتحدث باسم الهيئة للمفاوضات (منذر ماخوس)، قال في لقاء عبر قناة الجزيرة، بعد يوم من توقيع الاتفاق: إنه يُتابع التطورات عبر وسائل الإعلام، وما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي!.
وإذا كان أسامة أبا زيد، المتحدث باسم الجيش الحر، والمجموعات المسلحة التي ساهمت في التوصل إلى اتفاق أنقرة، قد استبعد كليًا مشاركة أي من تكتلات المعارضة التي تُعرف باسم منصة القاهرة أو منصة موسكو، وهو يشير إلى بعض الشخصيات التي يتحفظ الشارع على وجودها، ويعدّها “خائنة” للثورة، غير أن الوقائع تشير إلى أن المعارضة -في مجموعها- قد استُبعدت، وقد تقودنا الأيام المقبلة إلى توقع ظهور شخصيات جديدة لم تكن طافية على السطح، أقله حتى إلى ما قبل توقيع اتفاق الهدنة، ما يعني أن الأمور ستبتعد كليًا عما هو متوقع، وأن ترتيبًا جديدًا بدأ يأخذ شكلًا مختلفًا، وأن هذه الانعطافة المفاجئة في مسار المسألة السورية ستقودنا إلى تحوّلات إضافية، تريد موسكو من خلالها تضييق المساحات بما يلائم أهدافها البعيدة في المنطقة، كما أنه يقطع الطريق على الدول الأخرى وخاصة واشنطن التي ستعود إلى الواجهة بعد تولي رئيسها الجديد، بحيث يكون الملف السوري غريبًا عنها، وعما رتبته طوال السنوات الفائتة، دون أن نقول تربيته وربطه بها ربطًا مباشرًا أو غير مباشر، بحيث بدت الولايات المتحدة وكأنها صديقة لثورة الشعب السوري، وهذا كلام أثبتت الأيام والحقائق التي كشفت -لاحقًا- أن لا صحة له، وهو مناف للواقع تمامًا.
الحال الراهنة -إذن- ستفتح الباب واسعًا لأنواع جديدة من الانقسامات، على الرغم من التفاؤل الذي حمله اتفاق الهدنة، وهذه الانقسامات لن تقتصر على معسكر المعارضة، لكنها قد تتجاوزه إلى معسكر النظام وحلفائه، وخاصة أن بعض الميلشيات المرتبطة بإيران أعلنت -في مرات كثيرة- أنها لم تأت إلى سورية لتغادرها، وأنها جاءت لتُقاتل؛ كي يظهر “المهدي المنتظر”، كما أعلن ذلك أحد قادة الحشد الشعبي العراقي الذي تقاتل ميليشياته في سورية، وكانت أول الداخلين إلى مدينة حلب في عُقب احتلالها.
الشارع السوري انتهز فرصة توقف القصف الجوي في بعض المناطق، وأخرج لافتاته التي رفعها في الأيام الأولى للثورة، وخرج إلى الشوارع؛ ليهتف بصوت واحد: الشعب يريد إسقاط النظام… فهل ستكون هذه الورقة من ضمن الأوراق المسموح مناقشتها في لقاء الأستانة المرتقب؟ كلّ حلٍّ ما عدا ذلك سيكون ذرًا للرماد في العيون.