ثمة حالة من السيولة في راهن المشهد السوري، أدى إلى تداخل في الرؤية الكلية، بات من الصعب معها القيام بعملية الفرز، فعسكرة الثورة مع التقارب الواضح لموازين القوى على الأرض، أدى إلى ظهور خطاب ديني متشدد ازداد تأثيره سلبًا مع تحوله إلى عسكرة طائفية تنفذ حربًا بالوكالة يقودها الطرفان، لتنعكس على الأرض حالة تموقع ظرفي، طالبت به الساحة الشكلية السياسية. والوقوع نتيجته داخل حتمية طائفية، سالبة لكل إرادة إنسانية، ونافية لأي تفاهم أهلي؛ ما عكس هشاشة الكيان الوطني وعجزه عن امتصاص دينامية التحرك المجتمعي، فاقمته حالة ضعف الجيش الوطني لصالح تشكل ميليشيات طائفية وجهادية
العقل الأنثروبولوجي السوري مدعو اليوم – والحال هذه – لقراءة المشهد، بأدوات تحليل وتوصيف تتجنب ما أمكن سوء الفهم الصادر عن عجز في الفصل بين مستويات مختلفة للظاهرة الاجتماعية الواحدة، وأهمها حالة “التطييف” المنتشرة على طول البلاد وعرضها، هذه الظاهرة اليوم وهي تدير رحى الموت على الجميع من أيدها وكان معها ” جاهد ” في سبيلها، فكان أول ضحاياها ومن خالفها ووقف ضدها ” جُوهدَ ” فيه فكان ضحيتها
وضمن الجهد المقدم كان كتاب ” عوامل السلم الأهلي والنزاع الأهلي في سوريا ” الصادر عن مركز المجتمع المدني والديمقراطية في سورية.
حجر الزاوية في الأبحاث التي ضمها الكتاب الاستبانة التي أجراها لشريحة من الطلاب المتدربين على فنون الإعلام في المركز، وعلى الرغم من ذلك لا يخفى الرأي، وان استتر وراء البحوث المقدمة كـ ” تقييم حالة “، وعلى الرغم من اعتماد الأبحاث الأربعة على طرح المسألة ” النزاع ” على مستواها الشكلي البحت، من ناحية عوامل معالجتها “عواملَ سلم” إذ ثمة بنودًا للسلم الأهلي المعرف في مدخل الدراسات بأن “يعيش الإنسان حياته ويمارس أعماله بحرية مسؤولة وأن يحصل على متطلبات عيشه وحقوقه بيسر وسهولة ”
في بدء دراستها توضح ناريمان عامر أمرًا بالغ الأهمية، فبعد اطلاعها على أوراق الاستبانة وحياتهم الشخصية تجد أن ” العينة المنتقاة من المجتمع السوري هي عينة تمثل شريحة المعارضة، وتغيب عنها الموالاة ” ص55 ما يدفع سؤالا جوهريًا الى المقدمة: هل كانت الموالاة ستوافق أصلًا على الدخول في أي نوع من التجاذب الكلامي مع المختلف؟ الأمر هنا يكشف، بحسب زعمي، حجم المأساة في الشقاق الحاصل؛ فهذه الشريحة المنتقاة تقطن مناطق يراها محمد سامي الكيال: ” زادت من إحساسها بالظلم الاجتماعي الواقع عليها، وزيادة مرارتها تجاه مجتمعات أخرى لم تعرف كل هذا الدمار، وما زالت الحياة فيها شبه طبيعية ” ص27 سأدفع هذا القول حتى أقصاه؛ لأقول أن المناطقية القائمة على كنتونات سكانية ذات نسيج واحد دفعت إلى الاعتقاد بوجود شريحة واحدة من السكان تطلب التغيير، وهنا سيكون ” السنة ” مقابل شرائح أخرى ترفضه، وتقاومه “الأقليات” لكن كبال، وعلى الرغم من مقولته السابقة، وما بين سطورها، يرى أن مؤسسات ومنظمات ومراكز دراسات ” استخدمت المنظومات المفهومية القديمة والوصفات المستوردة الجاهزة لدراسة الوضع السوري ”
وهي مقدمة، إذا ما بني البحث على تحاشي الوقوع فيها ما أمكن، وجد سبيله الى الجدة والأصالة الفكرية والأتيتان بالجديد يرفض كيال منذ البدء ” القبول بوجود هوية ثابتة لمجموعة بشرية ما، بل وننفي وجود ووحدة هذه المجموعات بالشكل الذي يفرضه التنميط ”
مع نظرة عامة إلى الأبحاث أرى الطروحات الأربع تدور -على اختلافها- حول فكرة مركزية، وهي الطائفية التي تعد الأهم بين عوامل النزاع الأهلي الذي تحدده الاستبانة المقدمة بتسعة عوامل، ومثلها عوامل للسلم. وحسبنا منها الإشارة إلى اندراجها تحت عنوان عريض ” الطائفية “، اتخذه في مراجعتي للكتاب عاملًا رئيسًا أتتبعه في الطروحات المقدمة؛ لأفكك الأبحاث وأعيد نظمها في أجوبة لمجموعة من الأسئلة:
– كيف عُرض عامل ” الطائفية ” في الدراسات؟
- ما عوامل تشكلها؟
- هل ثمة عامل خارجي؟ ما حجمه؟
- ما الحل؟
ظل النظر في الدراسات المقدمة إلى المسألة الطائفية أسير زاويتين تطلان على فضائه: زاوية بنيوية وأخرى أداتية، كانتا أرضية لعرض عامل الطائفية.
النظرة البنيوية اعتمدت ” الذهنية الشرقية ” وبنى العلاقات القائمة في المجتمع. إذ أحيلت إلى انقسام سابق وشامل في المجتمع السوري ما قبل الحراك، وان لم يكن ظاهرًا رآها محمد سامي كيال قد ولدت نظرة إلى المجتمع، كما لو أنه مكون من ” كتل طائفية واثنيه متجانسة … يجب الحفاظ على السلم بينها ” هذا التصور أعاد ” في العمق إنتاج المنظومة الطائفية ” ص 29 ومثل هذه البنية المجتمعية والانقسام الأهلي فيها رآها بدرخان علي ” لاتسمح إلا باندلاع حروب طائفية ” ص 112.
وبنيوية عددية اعتمدت الحجم، كما أوردت ناريمان عامر؛ إذ الصراع بين ” أغلبية تشعر بأقليتها، وأقلية لا تريد التنازل عن سيادتها”.
ونظرة أخرى ناتجة عن الاستخدام الأدائي، أي: استخدام الطائفة أداة لكلا الطرفين للمحافظة على السلطة أو الوصول إليها عبر ربطها بالحراك أو بالوقوف ضده؛ لتصبح ” الطائفة ” أداة في صراع سياسي توظف من أفراد يدعون قيادتها، فالطائفية من هذه الزاوية يراها الصديق، محمد ديبو، أداة بيد النظام “خدمة لبقائه في السلطة ” ولذلك عمد إلى ” تقسيم المجتمع طائفيًا بشكل مستتر ” ص 120 وبتعبير آخر، كتب بدرخان ” إحدى أدوات الحكم للنظام ”
وهذا لايمنع ظهور عوامل أخرى؛ لتشكل الطائفية” أحوال غياب الحريات والجهل بالآخر مع الرغبة في الانتقام ” مثلما تحدث محمد سامي كيال، لكنها في المجمل ظلت رهينة نظرتين خلال عرضها في الأبحاث بنيوية تخص المجتمع وأداتيه خاصة بالطائفة، وفي كلتا الحالتين ازدادت وتائرها شدة مع ازدياد عنف الدولة للسيطرة على المجال العمومي؛ لأجل إعادة إنتاج الخضوع، ما فاقم هذا الراسب في وعي أفراده، وولد لدى الطرفين -على حد سواء- حالة عامة من ” اللا وطنية “، عززها تبدل زاوية النظر إلى الدولة من جهة تغير في دورها الوظيفي من الحماية إلى العنف .
أعادت الحرب السورية إنتاج الطائفية السياسية في صورة إقليمية أوسع؛ حتى باتت الساحة الشرق أوسطية مختبرًا لإعادة صوغ العلاقات الدولية دفعت ” روبن رايت ” إلى التساؤل في نيويورك تايمز ما إذا كانت الحرب السورية مقدمة لإعادة رسم حدود المنطقة بالكامل، إذ ساهمت هذه الحرب في بناء كيانات سياسية تعتمد هويات ثقافية ومرجعية دينية، بوصفها وشيجة للاجتماع الدولتي بين دول بكاملها؛ لتنتج صدامًا مروعًا ومريرًا بين الأصوليتين: الشيعية والسنية، وحولنا تشكل الدولتين: لبنان والعراق قمة الاستقطاب الطائفي عبر توظيف حجم الطائفة في المسألة السياسية وفي سورية، رأى بدرخان أن هذه اللغة هي ” لغة مستجدة في العموم السوري”، وأنها وافدة من الخارج؛ فما حجم هذا الخارج في الحدث الطائفي السوري؟
لتمثل أحد مفاتيح الفهم للحاصل على الأرض، تذهب عامر بعيدًا في القول ” نميل إلى ترجيح ثقل اللحظة الخارجية في انتقال كل المسببات الحاضرة”؛ فترى أن هذا الخارج ساعد في ” خلق هويات مستحدثة إعلاميًا ” ص 72 ورأى محمد ديبو أن الأجندة الخارجية لعبت بالورقة الطائفية لأجل صناعة الطائفية؛ كي تجعلها ورقتها الرابحة للتدخل تحت شعار حماية الأقليات ص 131 في حين حمل بدرخان هذا الخارج مسؤولية انحراف الثورة إلى الطائفية، ورأى أنها ” حصيلة موضوعية للتدخلات الخارجية “، ومن جهة أخرى وجد كيال أن هذا العامل قد أصابه التهويل في تحميل ” التدخلات الخارجية مسؤولية الأحداث “. ص 45.
لاشك في أن ثمة لغة تصاعدت مع تصاعد العمل العسكري وطغت على المفهومات السياسية الرائجة؛ لتصبح من نسيج المكون المعرفي لكلا الطرفين، ضمن إطار يضيق الأفق الموضوعي والذاتي للثقافة؛ لتصبح مجرد خادم للأيديولوجيا المنغلقة، وتغدو هنا فكرة القتل بديهية وسهلة التنفيذ، فهو إما مع أيديولوجيا هذه الجماعة أو أنه عدو يستحق القتل عبر التركيز من كلا الطرفين على فكرة “الطائفة المظلومة” وفق أيديولوجية عاطفية فجة، تندفع فيها كتل بشرية من أدنى السلم الاجتماعي، دون أهلية أو قدرة لترمى في موقع الصدارة فحسب، لأنها قادرة على تحريك البشر عبر غرائزهم، ومع دخول ” الجهاديين ” نقل هذا الفكر إلى شرائح أوسع من المجتمع السوري، فإذا كان الخارج قد ” ألهم ” الأسلوب، فانه قد ” راكم ” المشكلات وزاد من تعقيدها
تبدو اللعبة الأممية في سورية مغلقة الأدوار وموزعة، فحين ينفجر الداخل تدير الأطراف الخارجية الصراع، وتبقيه ضمن سقف مصالحها الاقتصادية والسياسية.
لقد خلص الباحثون إلى وجود العامل الخارجي في عملية الطائفية، اتفقوا في وجوده واختلفوا في حجمه.
لاخوف من الشكل الديني أو المذهبي للطوائف، فوجودها من طبائع الأشياء لكن الخوف من وجودها بالشكل السياسي، بمعنى جعل الطائفة مذهبًا سياسيًا يحدد الخيارات، يبدو هذا القول متفقًا عليه، لكن في تحديد الحالة السورية ماذا لو قلنا بأن البعد الاقتصادي قد لعب دورًا مهمًا في الطائفية، وذلك بربط الطائفة بنمط إنتاجي معين وهو ” الجيش وقوى الأمن ” بوصفها مصدر رزق لكثير من الأفراد، فأصبحت جماعة كاملة نتيجة هذا اللون في الجهاز الأمني محسوبة على أساليب القمع التابعة للدولة , لكن هذا الطرح يولد سؤالا آخر هل كانت هذه الطائفة مهيمنة بذاتها، أم بقوة الدولة التي تتوسلها؟
وإذ نفهم الطائفية وفق هذا السياق، وبهذا الكم الهائل من الأسئلة لا يعود من الممكن ردها إلى حدث بعينه، أو إلى شخص مفرد أرادها فحصلت، فالطائفية تستخدم التراث الديني وتسمه بهوية سياسية؛ ليأخذ طابعه العنفي، وهو أمر آخر يشارك في إنتاجها. فالطائفية تحتاج إلى أن تكون الطائفة هوية وحيدة للجماعة لا تعرف بغيرها، وهذا لا يعني شيئًا غير تشكلها وحدة متماسكة اجتماعيًا وقائمة بذاتها، ولتحقيق هذا التماسك تحتاج لأيديولوجيا جامعة. لقد رأى مايكل مان أن الحرب الأهلية “تقوم على أيديولوجيا التخاصم النضالي ” فدون أيديولوجيا حرب لا وجود للحرب وهو الحاصل عينه في سورية، فالجانب الاقتصادي للحرب الأهلية يكاد يتلاشى، وتعتمد الحرب بكاملها على لعبة هواجس ومخاوف الجماعات المتخاصمة اذ يجري تحطيم الدولة أولا ومن الطرفين، إما بتضييقها الى مجال الـ “نحن”، أو بمعاداتها والنظر إليها من منظور الآخر العدو للجماعة الداخلية وبعدئذ يجري استحضار المقولات المؤسسة للخطاب الطائفي، بوصفها نماذج فقهية وفتاوى لمراجع دينية ترسي حالة ” الأدولة ”
ما أود قوله إن للطائفية من الأسباب ما يفيض عن قدرة فرد بعينه على حصرها وإجمالها.
لا تخرج الحلول المقدمة عما أوردته الاستبانة وأجمله في تسع عوامل من التعاضد الإغاثي إلى محاسبة المسؤولين والعدالة الانتقالية وتشكيل حكومة مدنية والدستور، لكني أرى حلول الطائفية شيئًا آخر تبدأ بالمصارحة ثم العدالة وصولًا إلى المسامحة والصفح، وهو أمر تحدده سيرورة الأحداث على الأرض السورية، مع إعادة إنتاج لغة عمومية تحمل مفردات جديدة، تبتعد عن تقابل الثنائيات التي تحمل تضادًا مانويًا وطنيًا / خائنًا سنة /شيعة، لتصبح ذات مدلول عام وطن – مواطنة – مجتمع أهلي – سوري
الأمل كبير يراه كيال في التوق إلى الحياة، “سيحطم كل السرديات الطائفية ” ص 49 ويورد محمد ديبو قول أحد المشاركين من أن ” الشعب السوري لديه ميراث حقيقي من التعايش، يسهم في تحييد هذا العامل ” ص 137
لكن البقية لا يخفون خوفهم، يقول بدرخان حول سورية الجديدة ” على ألا تؤخذ كلمة الجديدة بمعناها الإيجابي المتقدم نحو الأفضل ” ص 85 وتصل عامر إلى أقصاه بالخوف من ” تقسيم فعلي لسورية إلى دويلات لرأب الحقد المناطقي “ص79
أعد الدولة بمؤسساتها هي الضامن الوحيد والأخير لبقاء الكل الجغرافي، ولقيادة سلم أهلي عبر مؤسسات وطنية تعيد تعريف الجماعات الأصلية المغلقة لتلحقها بالدولة، وأهمها التعليم؛ لنصل إلى إنتاج الفرد الحامل للقناعات الموزونة، كما رآها الفيلسوف الأميركي، جون راولز، بمعنى القناعات المتحررة من الأحكام المسبقة والخاضعة بانتظام للمراجعة النقدية.