بعد سقوط حلب وإعادة موسكو الحديث عن الحل السياسي، انطلقت دعوات من هنا وهناك تتحدث عن ضرورة الانخراط في الحل السياسي الذي تطرحه موسكو. وإذا كان الحل السياسي مبتغى الجميع، ولا يجوز لأحد أن يرفضه أيًّا كان، فإنّ الضرورة والمنطق يقتضيان -أيضًا- البحث والتفكير في ما إذا كانت شروط هذا الحل متوفرة أولًا، وفي كيفية خوض المعركة السياسية ثانيًا.
بداية، من بديهيات الأمور أنّ كلّ طرف منخرط في الحل السياسي ينطلق من مصالحه التي لا يمكن الحصول عليها أو تعزيزها على طاولة التفاوض، ما لم يملك أمرين اثنين: القوة (عسكرية وسياسية)، والحنكة السياسة اللازمة لإدارة العملية، تنازلًا هنا ومكسبًا هناك، ضمن رؤية استراتيجية طويلة المدى تأخذ التكتيك الآني في الحسبان، مع الانتباه جيدًا لما يجوز التنازل عنه تكتيكيًا، ولا يمكن التنازل عنه استراتيجيًا.
من هنا، فإن أيّ حل تريده موسكو هو ذلك الحل الذي يحقق مصالحها في سورية أولًا وأخرًا، الأمر الذي يقتضي الدراية الكاملة، بما تريده موسكو من سورية؟
لا شك في أن الحديث التقليدي عن كون سورية قاعدة موسكو الوحيدة على المتوسط وآخر معاقلها في الشرق الأوسط، بات حديثًا من الماضي، فالرؤية الروسية الحديثة تقوم على استعادة النفوذ السوفياتي السابق كليًا، ووراثة الدور الأميركي المنسحب، والتحول إلى قوة دولية من جديد، بكل ما يعني ذلك من وجود طويل الأمد في سورية، تدل عليه القواعد العسكرية التي تجهز بالعتاد والسلاح، والبعد الاستخباراتي الدائم، وقيادة المعارك على الأرض. وهذا تقوم به موسكو (كما طهران أيضًا)؛ لإدراكها التام أن سقوط دمشق يعني فعليًا (وعلى مدى طويل) اقتراب الكماشة من عنق النظام الروسي، الذي يحكم بنصف ديمقراطية، يديرها بوتين بقبضته، وذلك ضمن لعبة أحجار الدومينو أو تأثير جُنح الفراشة المعروف، فكما كان انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط بغداد، وخروج الجيش السوري من لبنان، سلسلة أحداث جعلت الكماشة تقترب من عنق النظام السوري، فإن الأمر ينطبق على نظامي طهران وموسكو، وغيرها من الأنظمة التي تبني استقرارها على قبضة الداخل، والتمدّد (البلطجة) في الخارج؛ لبناء أوراق تقايض بها أو تحميها لحظة الزلازل (الثورات)، وهو ما رأيناه عمليًا في كيفية استفادة النظام السوري من سماحه لعبور القاعدة في العراق واختراقها، ومن حزب الله الذي رعاه بالتعاون مع إيران، دون أن يعني ذلك أنّ الأمور الأخرى من عناصر الاستراتيجية الروسية ليست مهمة، بل هي عناصر مكوّنة لها، بعضها يمكن التخلي عنه (الأسد ورموز النظام السوري)، وبعضها لا يمكن التخلي عنه (الجيش السوري والاستخبارات القوية والسماح بمرور أنابيب الطاقة عبر سورية إلى الغرب…).
إذ ذاك، يكون السؤال: أي حل روسي تبتغيه موسكو -إذن- في سورية؟
لا شك في أنّ الحل الذي تبتغيه موسكو يعني -جوهريًا- الاستسلام التام لإرادتها، وليس للإرادة الأسدية، وإنّ تأمُّل جوهر “السياسة” التي خاضتها موسكو، منذ بدء الثورة حتى اليوم، يتبين أنها قامت على الخداع والمكر للمجتمعين: السوري والدولي، ففيما تتحدث الدبلوماسية الروسية عن ضرورة الحل السياسي ومحاربة الإرهاب، كانت توضع الاستراتيجيات الكاملة؛ لضرب الثورة والحسم العسكري، وكان هذا يتوازى دائمًا مع مؤتمر هنا (جنيف بأرقامه المتعددة، موسكو…)؛ للإيهام بأن الحل السياسي يقترب، فيما الحسم العسكري هو المطلوب، وهو ما تبتغيه موسكو اليوم من إعادة تدويرها لعجلة السياسة بعد سقوط حلب، فيما الهدف هو العمل على إسقاط إدلب، وضرب المعارضة المسلحة كليًا، في استراتيجية واضحة منذ زمن بعيد، ضرب المعارضة المسلحة (معتدلة وراديكالية) وترك داعش تتمدد لتستقر الساحة السورية في نهاية المطاف على ثنائية نظام – إرهاب، فتشن معركتها الكبرى، بالتوازي مع تجهيز لعبة حل سياسي تتطابق وطموحها هذا، عبر العمل على إعداد دمى سورية على نمط هراوي لبنان أو كرزاي أفغانستان.
ولعل أكثر ما يجعلنا نعرف ماهية الحل السياسي الذي تريده موسكو، هو النظر إلى جوهر النظام الروسي ذاته، إذ ببساطة مفرطة لا يمكن للمرء أن يعطيك أكثر ما عنده، والنموذج “الديمقراطي” الروسي يقوم على واجهة ديمقراطية وجوهر دكتاتوري، يعادي القيم الأساسية المتفق عليها عالميًا (العدالة، حقوق الإنسان، المجتمع المدني…)؛ ما يعني -في نهاية المطاف- أنّ الحل الروسي يقوم على جوهر الحسم العسكري، وبناء نظام على شاكلة نظامه بالحد الأعلى.
الأمر الذي ينطبق على موسكو ينطبق أيضًا على كل الدول الفاعلة في سورية اليوم، فكل سياساتها تنطلق من مصالحها، ويكفي التدقيق في جوهر هذه الدول (تركيا، إيران، أميركا، دول الخليج، إسرائيل) وماهيتها حتى ندرك أنه لا يوجد بينها دولة ديمقراطية أبدًا؛ ما يعني أن ولادة نظام ديمقراطي حقيقي في سورية، هو تهديد لمصالح هذه الدول، كما كان دائمًا وسيبقى، أن ولادة نظام ديمقراطي لا طائفي في لبنان هو تهديد مباشر للنظام السوري.
أمام هذا الواقع الذي تجد الثورة نفسها في مواجهته، يبقى السؤال: ما الذي يمكن فعله؟
أول الأشياء، تبدأ من معرفة بديهية واضحة في علم السياسة أنّ أيّ مطلب لا يتحقّق، إن لم يملك صاحبه القوة والإرادة والحنكة التي تجعله قادرًا على فرض ما يريد، بما يعني أن لا حل سياسي للأزمة السورية حقًا، ووفق ما يريد السوريون، وبالحد الأدنى أيضًا، وفق ما تسمح به فراغات القوى الفاعلة في سورية اليوم، إلا إذا امتلكوا القوة (سياسية أو عسكرية) القادرة على فرض هذا الحل، ولهذا حديث آخر.