مقالات الرأي

“المعارضة” منصات بلا قواعد

منذ 2012، كان الحديث عن مفاوضات بين النظام والمعارضة في سورية، يحضر ويغيب، تبعًا لأحوال محلية وإقليمية ودولية متعددة، وفي مقدمتها دور العمليات العسكرية التي ظلّت كفتها تتأرجح بين الطرفين، ومع نهاية العمليات العسكرية في حلب، عاد الحديث عن المفاوضات، إذ من المتوقّع أن تستضيفها الأستانا، بدعم أساس من روسيا التي باتت اللاعب الرئيس في الملف السوري.

ومع كل حديث عن المفاوضات بين النظام والمعارضة يعود الجدل حول ماهية الكيانات المعارضة التي ستكون حاضرة على طاولة المفاوضات، وما تمتلكه تلك الكيانات من أوراق يمكن استخدامها في عملية التفاوض، من أجل الوصول إلى حلول قابلة للاستدامة، أو على الأقل يمكن البناء عليها مستقبلًا، في إنهاء الصراع المسلح، والبدء بإعادة بناء الدولة، التي انهارت معظم مؤسساتها؛ حتى وصل الانهيار إلى المؤسسات الخدمية نفسها.

كان واضحًا في سياق السنوات الماضية، أن الكيان الرئيس الذي مثّل المعارضة، أي الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة السورية، لم يتمكن من بناء مؤسسة جامعة للمعارضة، بل إنه، وعلى الرغم مما حظي به من دعم مالي وسياسي إقليمي ودولي، راح تدرجًا يفقد الشرعية الشعبية التي منحته إياها بعض الفئات، ورأت أن الإمكانات التي قُدّمت له، يمكن أن تؤهّله للقيام بدور مؤسسة وطنية للمعارضة السورية، خصوصًا أن الدعم السياسي الذي قُدّم له من مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” أوحى لكثيرين أن الإرادة الدولية ماضية في دعم هذا الكيان.

لقد مضت اللعبة الإقليمية والدولية في سورية باتجاهات مغايرة لتوقعات “الائتلاف الوطني”، الذي وضع آماله في سلة القوى الإقليمية، وعوّل على سياساتها في دعمه، وإيصاله إلى طاولة المفاوضات، بوصفه طرفًا رئيسًا في التفاوض، من دون الأخذ في الحسبان مستويات التغيّر في تلك السياسات، نظرًا لتغيّرات تفرضها علاقات القوة في الواقع السوري من جهة، وفي الواقعين: الإقليمي والدولي من جهة ثانية، ومن دون حساب مستوى التعقيد في المصالح بين الدول المتصارعة على الأرض السورية، وهي مصالح استراتيجية، تتجاوز في معظمها الجغرافيا السورية، وبالتالي؛ فإن الملف السوري يمكن أن يخضع في نهاية المطاف لمنطق التسويات والصفقات في حسابات تلك الدول.

بات واضحًا أن “الائتلاف الوطني” يعاني في بنيته الداخلية، وأن الوقائع بعد انتهاء العمليات العسكرية في حلب كشفت الغطاء عن المشكلات البنيوية العميقة بين مكوناته، خصوصًا أنها لا تمتلك اليوم امتدادًا جماهيريًا، وهي في معظمها امتداد للعمل السياسي المعارض في ظل نظام البعث، ولم تُجدّد مِلاكاتها خلال الثورة، بل إن بعضها عانى من تقلّص، حتى تكاد بعض القوى المنتسبة إلى الائتلاف لا تضم في صفوفها سوى بضعة أفراد، وهو ما يجعل من خيار بقائها في “الائتلاف الوطني” الفرصة الوحيدة لبقائها، إذ تستمد شرعيتها الوحيدة من خلال شرعية “الائتلاف”، وخروجها منه بمنزلة النهاية الحتمية لها، ولمن يمثلونها من شخصيات.

إن مشكلة ضعف قواعد المعارضة السورية مشكلة عامة اليوم، وليست -فحسب- مشكلة خاصة بالقوى الموجودة داخل “الائتلاف الوطني”، فمعظم التشكيلات التي انبثقت خلال الأعوام الماضية، وفي مقدمتها القوى الموجودة في منصتي “موسكو”، و”القاهرة”، لا تحظى بشعبية لدى الرأي العام المعارض، ولا تمتلك قواعد حزبية واسعة، وإنما مجرد تركيبات فرضتها تعقيدات الوضع السوري، خصوصًا لجهة الاستقطاب الإقليمي والدولي، حيث باتت شرعية الكيانات السياسية تستمد من الاعتراف الخارجي بها، وليس من خطابها، أو من التأييد الشعبي الذي تحظى به، أو لامتلاكها قواعد حزبية ذات وزن وفعالية على الساحة السورية، ومعظمها يعيش بموارد تقدّم له من الدول.

بالطبع، إن التدخل والاستقطاب الإقليمي والدولي لا يعفي الكيانات السورية المعارضة من خطأ التعويل على الخارج، وإهمال مهمة العمل بين السوريين، وكسب مؤيدين لها، وبناء كوادر حزبية، وامتلاك القدرة على التواصل الإعلامي مع عموم السوريين، وهي الركائز الأساسية التي تمنح الكيان السياسي شرعيته، ومكانته الوطنية، وتمده بهامش كبير من المناورة في السياسة الخارجية والعلاقات مع الدول، وتجعله لاعبًا وازنًا على طاولة التفاوض.

إذن، كيف يمكن لكيانات سياسية لا تمتلك قواعد جماهيرية أن تذهب إلى عملية تفاوض مصيرية على مستقبل بلادها، وما الخيارات التي يمكن أن تكون متاحة لها، وما مساحة هامش المناورة في رفض الإملاءات الخارجية التي تتنافى مع فداحة الأثمان التي دفعها السوريون والسوريات؟ هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن تجاهلها، ولا ينبغي تجاهلها من قبل أي كيان سياسي يذهب للتفاوض، لمعرفة موقعه في العملية السياسية، وهل هو مشارك فعلي أم مجرد شاهد؟

إن المآلات التي وصلت إليها الكيانات السياسية المعارضة، من مثل هزالة بُناها، وضعف حضورها الشعبي والإعلامي، وافتقادها الملاكات الحزبية الواسعة، واحتمال تلاشيها، يجب أن تدفع تلك الكيانات إلى إعادة النظر في تكوينها، ومدى افتراقها في الخطاب والأهداف عن الكيانات الأخرى، وما الذي يمكن أن تفعله ليكون وجودها حقيقيًا، وليس إسميًا، ومن دون إعادة النظر تلك؛ فهي مهددة، وأكثر من أي وقت مضى، بأن تواجه نهايتها المحتومة. فهل آن وقت المراجعة؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق