سورية الآن

بعض استراتيجيات التفاوض في أستانة

لا يمكن أن نتصور أن تصريحات مسؤول بموقع، نائب رئيس الوزراء التركي، في منتدى للنخبة، كـ “دافوس”، حول قبول التسوية في سورية مع بقاء الأسد، كانت زلة لسان. لكن ما يمكن أن نفهمه من خلال النفي الصارم لدقة التصريح، من جانب مكتب نائب رئيس الوزراء نفسه، في أنقرة، وكذلك، من جانب وكالة الأناضول التركية الرسمية، أن التصريح كان رسالة لطرف محدد، وأن الأتراك لا يريدون أن تصل الرسالة ذاتها إلى طرف آخر.

ورغم النفي الرسمي التركي، واتهام الروس تحديدًا بتحريف تصريحات محمد شيمشك، نائب رئيس الوزراء التركي، إلا أنه يمكن لكل من يعرف مبادئ اللغة الإنكليزية أن يستمع ويشاهد، بالتسجيل المُصوّر، شيمشك، وهو يتحدث عن براغماتية وواقعية تضطر تركيا إلى قبول تسوية في سورية، لا تستثني الأسد.

فهل كانت تصريحات شيمشك تلك، تعبيرًا عن وجهة نظره الشخصية، أو، لنقل بعبارة أدق، هي تعبير عن خلافات داخل دائرة صنع القرار في تركيا حيال طريقة التعاطي مع الملف السوري؟..احتمال قائم.. لكن ذلك الاحتمال، لا ينفيه احتمال آخر، مفاده أن تصريح شيمشك، المثير للجدل، كان رسالة تركية لإيران، بهدف تعزيز احتمالات نجاح المفاوضات في أستانة. ولا يبدو أن الأتراك يريدون أن يُدرك السوريون، وتحديدًا حلفائهم السوريون، أنهم مستعدون للذهاب إلى ذلك المدى من التنازل للإيرانيين والروس، بغية إنجاح مساعي التسوية السياسية في سورية.

يُحيلنا ذلك إلى توصيف لاستراتيجية التفاعل التركية مع الملف السوري، منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في مطلع الصيف الماضي. وهي استراتيجية تندرج في سياق ما يسميه المتخصصون بـ “استراتيجيات منهج المصلحة المشتركة”.

ذلك أن مراجعة خطوات التقرّب التركية من روسيا، خلال الأشهر الستة الماضية، وخاصة في الملف السوري، تُذكّرنا تمامًا، بكل استراتيجيات منهج المصلحة المشتركة، بدءًا باستراتيجية تطوير التعاون، مرورًا باستراتيجية توسيع نطاق التعاون، وليس انتهاءًا باستراتيجية التكامل. فاليوم، يبدو جليًا أن العلاقة الروسية – التركية في الملف السوري، تقترب من حالة التكامل، وإن لم تكن قد وصلت إليها تمامًا.
ما سبق يطرح تساؤلًا ملحًا: هل بدأت تركيا تنتهج الاستراتيجيات سابقة الذكر ذاتها، مع إيران هذه المرة؟
ربما لأن الأتراك جادون في تحقيق تسوية سياسية في سورية، يكونون أحد أضلاع مثلث عرّابيها الرئيسيين، ومستثمري نتائجها، إلى جانب روسيا وإيران. لذا، يبحث الأتراك الآن عن سبل للتفاهم مع إيران، كي لا تُفشل الأخيرة مفاوضات أستانة، أو تنسفها برمتها. فالسلوكيات السياسية والميدانية التي أبدتها إيران في الأسابيع الأخيرة، التي سبقت المفاوضات، تشي جديًا بعدم رضاها عن مسار تلك المفاوضات.

فهل يئست تركيا من محاولات الاستثمار في الاختلاف بين أجندات وأولويات الحليفين الروسي والإيراني؟.. شهر التجربة الذي سبق المفاوضات المُزمع عقدها بعد يومين، كان كفيلًا ربما، باثبات، أن إيران قادرة على تخريب مسار التفاوض عمليًا، وأن الروس لا يملكون الكثير لفعله حيال ذلك، أو أنهم لا يملكون النية لذلك، ويُمثّلون فقط دور “الحمائم”، في استراتيجية مشتركة مع الإيرانيين، حيث يلعب الإيرانيون دور “الصقور”.

لكن، إن جزمنا، نظريًا، بوجود خلافات روسية – إيرانية، جدّية، وبامتعاض الروس من السلوك الميداني الإيراني المُخالف لخط سياستهم. في هذه الحالة، يمكن توصيف استراتيجيات الإيرانيين في التعاطي مع الأزمة السورية، بـ “مباريات السوبر”.

تقوم هذه الاستراتيجية، حسب المتخصصين، على الدمج في آن، بين ثلاث سلوكيات، وهي، التنازع، التحالف، الإعداد للتفاوض أو الصراع.

ويعتقد متخصصون كُثر، أن الإيرانيين بارعون في استخدام هذه الاستراتيجية في إدارة الأزمات، وفي التفاوض أيضًا. وهي الاستراتيجية ذاتها التي استخدمها الإيرانيون أثناء مفاوضاتهم مع الأمريكيين، في الطريق إلى الاتفاق النووي الشهير.

وحسب الأدبيات العلمية في التفاوض، فإن من شأن الدمج بين سلوكيات، التنازع، التحالف، الإعداد للتفاوض أو الصراع، في آن، الوصول إلى تصور شامل لنتائج الصراع في أي عملية تفاوضية أو تساومية، والسيطرة على تتابع الأحداث الناتجة عن فعل ما.

بكل الأحوال، يبدو أن المشهد سيكون عصيبًا للغاية على الفريق المفاوض الممثل للمعارضة، في أستانة. ذلك أن المؤشرات الراهنة، وكذلك التجارب السابقة، تُوحي بأن فريق النظام التفاوضي سيستخدم الاستراتيجية الهجومية في التفاوض، وهي استراتيجية يكون المفاوض فيها، في الغالب، عدوانيًا ومتشددًا. ويلجأ المفاوض إلى تلك الاستراتيجية عندما يكون تقييمه للموقف التفاوضي يُشعره بالتفوق، أو لعدم حرصه على إتمام المفاوضات بنجاح. وهما سمتان يتصف بهما نظام الأسد في الوقت الراهن، ويؤكد ذلك، تكليف بشار الجعفري، مندوب الأسد في الأمم المتحدة، بقيادة فريق النظام التفاوضي، وهو شخصية معروفة بأسلوبها الاستفزازي الهجومي.

وللأسف، عادةً ما تضطر الاستراتيجية الهجومية في المفاوضات، الطرف الآخر، إلى اتباع استراتيجية دفاعية، إن كان موقفه ضعيفًا نسبيًا. فيلجأ إلى تقليل الخسائر إلى أدنى حد ممكن، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

في ظل هذه الأجواء، يبدو أن لدى فريق المعارضة المفاوض، هامشًا محدودًا جدًا للمناورة. وقد يكون الالتزام بمبادئ التفاوض، والإصرار على تنفيذ مراحله المتفق عليها، بدقة، أبرز مرتكزين، قد يخدمان الفريق المفاوض للمعارضة. وذلك عبر الإصرار على السير في مساري، تثبيت وقف إطلاق النار، وفك الحصار وإيصال المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة، قبل ولوج أي مفاوضات تتعلق بالحل السياسي.

وبكلمات أخرى، إذا تمكن فريق المعارضة المفاوض من تحقيق معادلة صعبة، مفادها، المماطلة في التفاوض، مع ضمان وقف إطلاق النار خلال ذلك، إلى أن تتضح ملامح السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، سيكون ذلك إنجازًا يستحق كل تحية عليه. ذلك أن تحييد الضغط الميداني عن المعارضة، وعن بيئاتها الحاضنة، خلال الأشهر الثلاثة القادمة، إلى أن تستقر ملامح السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، يسمح للمفاوضين من جانب المعارضة، مستقبلًا، التفاوض بعد فحص كل الخيارات الممكنة لدعمهم، وبعد التعرف على كل مصادر قوتهم الممكنة أو المحتملة.

بطبيعة الحال، هي معادلة صعبة. ذلك أن الإيرانيين والروس، وربما أيضًا الأتراك، مستعجلون لتحقيق أمر واقع في سورية، يُفرض على الطرف الأمريكي حينما يصبح الأخير مستعدًا للمبادرة في الساحة السورية. فيما تبدو قوى المعارضة السورية مضطرة للتفاوض في أسوأ توقيت ممكن، بالنسبة لها.

(*) كاتب سوري

Author

مقالات ذات صلة

إغلاق