اقتصاد

هل يستطيع ترامب إعادة الصناعة إلى أميركا؟

يُسرع ترامب في أيامه الأولى في الحكم ليفي بوعوده الانتخابية؛ كي لا يظهر -سريعًا- أنه كان يخدع جمهور الناخبين الغاضبين، والناقمين على مجمل شروط حياتهم التي تتحسن قليلاً أو تسوء قليلًا، ولكنها تبقى في المجمل صعبة، وتثير غضبهم، لينال أصواتهم، وقد حصل.

يكرر ترامب أنه سيعيد الصناعة إلى الولايات المتحدة، ويوجه الأميركان ليوظفوا أميركيين، وأن يشتروا البضائع المحلية، وهي عبارات شعبية تشبه شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.

بالطبع مازالت الولايات المتحدة بلدًا صناعيًا عظيمًا، وتقود العالم في التكنولوجيا، ولكنها احتفظت بالصناعات المتقدمة جدًا، وتخلت عن صناعات كثيرة، تركتها ترحل إلى بلدان أخرى، فخسرت أميركا فرص عمل هذه الصناعات، وترامب يريد أن يعود بهذه الصناعات المهاجرة، وبفرص العمل، إلى أميركا.

أحد أساليب تنمية الصناعة الوطنية، هو اتباع الحماية التجارية، وهي نقيض السياسة الليبرالية وحرية المنافسة التي كانت الولايات المتحدة رائدتها وراثة عن بريطانيا. ولكي يستطيع تشجيع الصناعة الأميركية ثانية سيضطر ترامب لإلغاء اتفاقيات حرية التجارة، وسيضطر لأن ينسحب من اتفاقية منظمة التجارة العالمية (WTO) التي هندستها ورعتها أميركا منذ 1945، وكانت قد بدأت بمسمى “الغات” (GAAT) أولًا، ثم تحولت إلى الاسم الجديد سنة 1993 (WTO). فهل يستطيع ترامب أن يقوم بحركة الالتفاف الكبيرة هذه لأكبر اقتصاد في العالم، وقد تشكلت مصالح هائلة على هذا الترتيب وترسخت، سواء مصالح أميركية أم مصالح شركاء خارجيين؟

ما أفصح عنه ترامب من رأس جبل سياسته الغامضة، أنه سيلجأ إلى فرض رسوم على المستوردات، وضرب مثال السيارات الألمانية، وسيخفض بنحو النصف ضرائب الشركات، وضرائب أصحاب الدخول التي لا تزيد دخولهم السنوية عن 50 ألف دولار. ولكن هذين المثالين لا يكفيان لرسم سياسة بهذا الحجم، وعلينا انتظار ما سيقدم عليه.

خفض أرباح الشركات هو جزء من سياسية ليبرالية متطرفة معادية للناس، فهذا يعني انخفاض قدرة الحكومات على الإنفاق على البنية التحتية، وعلى الجهاز الإداري، وعلى شبكة الضمان الاجتماعي الضعيفة أصلًا.

لا أظن أن ترامب سيلجأ إلى تشجيع الصناعات كثيفة العمالة التي تحتاج إلى يد عاملة كثيفة غير مؤهلة، فهذا يرفع حاجة أميركا إلى قوة عمل مستوردة، بينما يبني الجدران لمنع الفقراء من المجيء الى أميركا، كما أن لجوءه هذا سيعني رفع تكاليف المنتجات. مثلاً؛ أكثر من 60 في المئة من السلع على رفوف سلسلة مبيعات المفرق “وولمارت”، مستوردة من الخارج من الصين والمكسيك وغيرها، وهو يهدد اليوم بفرض 20 في المئة رسومًا جمركية على جميع المستوردات من المكسيك؛ لتمويل بناء الجدار على حدوده مع المكسيك، أي: يريد أن يقتلك ويجعلك تدفع تكاليف قتلك. ثم حتى لو عاد وفرض رسومًا على المستوردات التقنية من الصين، مثل الحواسيب والهواتف المحمولة وغيرها، فهذا سيشجع تصنيعها في أميركا؛ ما يخلق فرص عمل، ولكنه سيرفع تكاليفها وأسعارها، كما أن سياسته الحمائية -هذه- سترفع تكاليف الحياة في أميركا ما يرفع تكاليف الصناعات الأميركية، ويعيق صادراتها، وستبقى صناعاته محصورة داخل أميركا.

الشركات الأميركية الكبرى تتعاقد اليوم مع شركات هندية، للقيام بأعمال كتابة برمجيات وصيانة ما هو قيد الاستخدام منها، وصيانة شبكات البرامج، والقيام بأعمال تصاميم هندسية، وخدمات الرد على المكالمات الهاتفية، وخدمات المحاسبة وغيرها كثير، ما يجري تنفيذه في الهند لصالح الشركات الأميركية.  فهل سيتخذ ترامب قرارًا بإلزام هذه الشركات بتنفيذ أعمالها هذه داخل أميركا لخلق فرص عمل وتوسيع القاعدة الضريبية؟ إن فعل هذا فيمكن أن نتصور كم سترفع من تكاليف هذه الخدمات وتكاليف منتجات الشركات المستفيدة منها. وهذا أيضًا سيرفع من تكاليف المعيشة في الولايات المتحدة، ويرفع أسعار منتجاتها؛ ما يؤثر سلبًا في قدرة صادراتها على المنافسة.

في المقابل؛ يمكن أن نتصور ما ستتخذه الدول والمجموعات الاقتصادية اليوم، فسترد أوروبا على إجراءاته بالمثل، وسترد الصين بطريقتها، وسترد الهند والمكسيك والبرازيل واليابان وغيرها. فهل تستطيع الولايات المتحدة أن تتحمل كل هذا؟

انغلاق الولايات المتحدة سيجعل مدخرات العالم لا تتجه إليها، مثلما تفعل اليوم، ولن تصبح بنوكها مركزًا لإيداع ثروات العالم، ولن تستمر سوق المال في “Wall Street” في مانهاتن سيدة أسواق المال في العالم، ولن تستثمر الصين واليابان وبلدان الخليج في سندات الخزينة الأميركية، وهي ديون ميتة لا تسددها واشنطن منذ 1960، وحتى اليوم، وهذا الدين أساسي لتغطية العجز وتحقيق التوازن في الموازنة الفيدرالية، وسيتراجع دور الدولار في السوق العالمية، وسيشهد العالم تحولًا من تسعير بورصات السلع بالدولار (نفط وغاز ونحاس وحديد ونيكل وألمنيوم وسكر وقمح وغيرها) ليصبح بواسطة عملات أخرى، وكل هذا سيؤدي لتراجع الطلب على الدولار، وستكون الصين سعيدة بحصول هذا، إذ يحرم أميركا من فوائد “الراكب المجاني” وسيؤدي هذا إلى تراجع سعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى؛ ما يعني ارتفاع أسعار المستوردات الأميركية وارتفاع تكاليف المعيشة على المواطن العادي، ولكنه سيشجع التصدير.

ترامب يخطط لانغلاق الولايات المتحدة على ذاتها، وتنمية اقتصادها الداخلي، ولا شك في أنها دولة كبيرة وقادرة واقتصادها الداخلي واسع وكبير، ويمكن أن يحتمل هذا الانغلاق، ولكن سيؤدي هذا الى ذبول تدريجي لها. فقد كتبت الولايات المتحدة، لكونها اليوم التاجر الأكبر في السوق العالمية المفتوحة، قواعد التجارة وفق مصلحتها، وأصبحت تأتيها الفوائد كما تأتي لكل حاكم على قرية أو مدينة أو دولة أو حاكم للعالم، وموقع الحاكم يخلق له هذه المزايا دائمًا، فإن تخلى الحاكم عن دوره هذا، ستتخلى المزايا عنه.

إن جرت الأمور -كما ذكرنا سابقًا- فستخسر الولايات المتحدة، أو -بالضبط- سيخسر قطاع الأعمال الكبير الذي يمثله الحزبان الوحيدان: الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، فهل ستسمح له هذه القوى بتنفيذ ما يريده؟ أم أن الأمور ستسير على نحو آخر. ثم هل يعمل ترامب لوحده، وهل يفعل كل هذا دون دعم قوى أميركية كبيرة، وما تلك القوى؟

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق