شهدت السنوات القليلة الماضية إصدار سلسلة من الكتب الجديدة التي كرّست صفحاتها لدراسة الحركات الجهادية، وعلاقتها بالصراع الدائر في سورية؛ إذ يشير هذا الكم الهائل من الكتب الصادرة باللغة الإنكليزية إلى إقبالٍ استثنائيّ على دراسة التيّار الجهادي، ومحاولة فهمه في ضوء الصراع السوري ومستجداته.
في كتابه الصادر بالإنكليزية نهاية عام 2015، يقدّم تشارلز قراءةً شاملةً ومفصّلة للطيف الواسع من الفصائل الإسلامية الجهادية في سورية، والدور الذي لعِبَتهُ على امتداد سنوات الثورة السورية، وكيفية انقضاض الوحش الجهاديّ على المشهد العام.
وخلافًا لكثير من الكتب التي ركّزت -في معظمها- على تنظيم داعش، فإنَّ كتاب ليستر يوسّع نطاق دراسته لتشمل سائر الفصائل الإسلامية الجهادية في سورية، منذ نشأتها، وليس تنظيم الدولة الإسلامية وحسب.
وكما يرى ليستر؛ فإنَّ التنظيمات الجهادية التي يقارب عددها الـ 20 فصيلًا (وفقًا لإحصائيته عام 2015) تلعب دورًا مهمًا في الصراع، وفي طليعتها تنظيم جبهة النصرة (كان ذلك قبل إعادة تسمية التنظيم بالاسم الجديد، وهو جبهة فتح الشام) التي -كما يرى الكاتب- سوف تشكّل تحديًا طويل الأمد يصعب حلّه، وذلك على عكس نظيرتها الجهادية الأكثر تطرفًا.
ويستفيد الكاتب في بناء سرديّة- كتابه من تجربة لقاءاته المباشرة، وجهًا لوجه، مع ممثلين عن أكثر من 100 جماعة سورية مسلحة، فضلًا عن حوارٍ استمرّ لعامين، رعاه معهد بروكينغز في الدوحة؛ حيث كان يعمل ليستر.
يُقَدِّرُ ليستر أعداد الجهاديين في سورية بما يزيد على 50 ألف مقاتل، لغاية الربع الأخير من العام 2015، وبحسب ما يشير؛ فإنَّ ما يزيد على 25 ألف جهادي قَدِموا إلى سورية، بهدف المشاركة في القتال، وهو عدد يفوق بكثير عدد المجاهدين الذين قاتلوا في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.
يقدّم الكتاب سردًا مُعمَّقًا، ووفق تسلسل زمني يسيرُ شهرًا فشهرًا، لكيفية نشوء وتطّور وتعاون هذه الجماعات؛ بل وحتى اقتتالها البيني، ويُظهِر تاريخ الحركات الإسلامية في سورية، وكيف أبصر تنظيم الدولة الإسلامية النور، كما ويدافع عن وجهة النظر القائلة بأنَّ الجهاديين استفادوا من تصرفات النظام السوري الرامية إلى ضمان إلصاق صفة التطرف بفصائل المعارضة؛ إذ إنّ إضعاف الفصائل الثورية المعتدلة، ومن ثَمّ؛ تسهيل بروز الإسلاميين، إنّما كان عنصرًا أساسًا وثابتًا في استراتيجية النظام السوري، بحسب ليستر.
ويعالج الجزء الأكبر من هذا الكتاب مرحلة الصراع الحالي؛ وصولًا إلى مرحلة التدخل الروسي في أيلول/ سبتمبر من عام 2015، الذي بدأ ضرباتٍ جويةً، وفي الواقع، فإنَّ معظم ما نفذه تنظيم الدولة الإسلامية من هجمات متنوعة في باريس وسيناء وبيروت، إنما جاء ليعزّز ما يذهب إليه الكاتب، في أن التدخل العسكري الروسي في سورية، سوف يؤجّج التشدد الجهادي تأجيجًا غير مسبوق، بدلًا من محاربته وإخماده، وبحسب ما يرى الكاتب، فإنّ تقييم مدى تأثير الضربات الجوية الروسية على الحركات الجهادية، لربما يحتاج إفراد كتاب كامل عنه مستقبلًا.
لعلَّ أكثر فصول الكتاب جذبًا للقارئ، هي تلك التي تتحدث عن جبهة النصرة وأحرار الشام. فمن الناحية العسكرية، يُعدّ الفصيلان أقوى فصيلين إسلاميين جهاديين في سورية، بعيدًا عن تنظيم الدولة. ويرى ليستر أنَّ جبهة النصرة تُظهر استعدادًا متزايدًا -منذ سنوات- للتأكيد على طموحاتها العلنية والعابرة للحدود، وأنّها سوف تتمسّك بها مع مرور الوقت. وبالانتقال إلى حركة أحرار الشام، الفصيل الإسلامي الذي يرى ليستر بأنّه يحظى بعلاقات وثيقة وتعاونٍ معلن مع جبهة النصرة، وبأنَّ كلِا الطرفين استفاد من الآخر على نحوٍ مهم، وأنَّ تنظيم جبهة النصرة كان بحاجة لغطاء وفرته حركة أحرار الشام، ليستطيع التحرّك بحريّة داخل سورية، وليتمكن من توسيع قاعدته فيها.
يرى ليستر أنَّ جبهة النصرة أظهرت براغماتيةً ملحوظة، بالموازنة مع تنظيم الدولة الإسلامية، وبذلك، فقد استطاعت كسبَ كثير من الحركات الإسلامية الأخرى إلى جانبها، كما يسلّط الضوء على لعبة التوازن الحذر التي تديرها حركة أحرار الشام عبر التمُّسك بتحالفها مع جبهة النصرة في صراعها العسكري، سواء ضد النظام السوري أم تنظيم الدولة، ولكنّها -في الوقت نفسه- تتبنّى نهجًا سياسيًا مختلفًا نوعًا ما، وينقل ليستر عن هاشم الشيخ، القائد في حركة أحرار الشام وقتئذٍ، قوله في مقابلة أجريت معه في نيسان/ أبريل من عام 2015: “إن جبهة النصرة وارتباطها بالقاعدة تمثل تهديدًا للشعب السوري”.
وتمثل مسألة الصراع والتنافس الداخلي في صفوف الجهاديين أمرًا يسترعي الاهتمام والمراقبة عن كثب؛ إذ يستكشف الكاتب بالتفصيل التوترات بين القاعدة ـ(جبهة النصرة) وتنظيم الدولة، والانفصال التام الذي وقع عام 2013، ولا يرى ليستر أي إمكانيةٍ للتصالح بين الجانبين، ولا سيّما بعد تطوّر الخلاف من مرحلة التوتّر إلى العداء الصريح. يعمل كلا التنظيمين بصورة مختلفة تمامًا، إذ يرفض تنظيم الدولة -بازدراء- أي تعاون عسكري مع الفصائل الأخرى في المعارضة السورية، لا بل ويُكَفّرها جميعًا؛ بينما سعت جبهة النصرة إلى إقامة علاقاتٍ وتعاون مع هذه الفصائل، وكما يضيف ليستر، فإنَّ النّصرة استفادت من تلك العلاقات؛ بحيث أنَّ جميع الفصائل التي تعاونت معها لم تندّد بإعلان التنظيم ارتباطه بتنظيم القاعدة عام 2013.
أمّا في ما يتعلّق بمواقف وعلاقات اللاعبين الخارجيين وسياساتهم تجاه الظاهرة الجهادية في سورية، وفي مقدّمتها سياسة الولايات المتحدة، فإنَّ ليستر يسلّط الضوء على فشل واشنطن في مهمة تدريب وتسليح فصائل المعارضة، إضافة إلى السياسة التي فُرِضت على المقاتلين السوريين الذين تدعمهم واشنطن، بأن يحاربوا تنظيم الدولة وحده، وليس قوات النظام السوري.
ومثالًا على سوء الأداء الأميركي في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، فإنَّ ليستر ينتقد بشدّة تصريحات وزير الدفاع الأميركي السابق، تشاك هيغل، التي وصفَ فيها تنظيم الدولة بأنه أكثر التنظيمات تعقيدًا وتمويلًا بين جميع التنظيمات التي عرفتها الولايات المتحدة، وقوله: إنَّ التنظيم يشكل تهديدًا وشيكًا لمصالح واشنطن، إن كان في العراق أم في أي مكان اخر، وفي نظر ليستر كانت تلك التصريحات بمنزلة ترويج وهدية على طبق من ذهب، يحلمُ بها هذا التنظيم الجهادي.
يسهم كتاب ليستر -إلى حدٍّ كبير- في إثراء المعلومات اللازمة للباحثين في الظاهرة الجهادية في سورية، إلا أنّ كثيرًا من المعلومات الواردة فيه لربما تحتاج إلى تتبّع مصادرها، غير أنّها تظل بالغة الأهمية؛ نظرًا لاجتماعها بين دفّتي كتابٍ واحد، وبالأخص تلك النصوص الغزيرة والمقتطفات المهمة من أحاديث قادة ومفكّري هذه الجماعات، فهذه النصوص تشكّل أهمية خاصة بحدّ ذاتها.
وفقًا لما يَخلُص إليه الكاتب، فإنَّ الجماعات الجهادية والإسلامية ليست على وشك الانقراض في سورية، ليس -أقلّه- بسبب الفشل الذريع للمجتمع الدولي في التعامل مع التحدّيات، والضعف النسبي الذي اعترى الكيانات المرتبطة بالجيش الحر الذي تبنّى الغرب دعمه.
يقول ليستر: “يبدو أنه سوف يتعذّرُ إغفال دور الجماعات الإسلامية الجهادية بصفتها شريكًا رئيسًا في أيّ عملية سياسية مستقبلية للسلام في سورية”. غيرَ أنَّ السؤال الأهم هنا هو: كيف تستطيع الجماعات الإسلامية ذات التوجّه “غير الجهادي” التنصّلَ من أيّ تحالف يربطها بنظيراتها الجهادية، إذ إنَّ الأخيرة أظهرت إلى الآن قدرةً تُنذِرُ بالخطر على الاستمرار والتوسّع، وذلك؛ على الرغم من جميع الهجمات العسكرية من جانب القوى العظمى، وكما يقول ليستر: “ينبغي ألا نتوقع خلاف ذلك من أولئك المنخرطين في الجهاد السوري”.