منذ أكثر من ثلاث سنوات وأنا أتساءل: لماذا لا يعتقلونني! فأنا معارض معروف، وسجين سياسي سابق، وناشط اجتماعي معاصر، وطويل اللسان. شاركت في التظاهرات منذ الشهر الأول، وقلت كما قال الملايين: عاشت سورية ويسقط بشار الأسد، وقلت: “يلي بيقتل شعبو خاين، والشعب السوري ما بينذل”. شاركت في كل الواجبات اتجاه شهداء الثورة ومعتقليها، وأملك كل الأسباب التي تخولني أن أكون معتقلًا… اكتفوا بمنعي من السفر، والامتناع عن تجديد جواز سفري؛ حتى أراجع الفروع الأمنية. وكثيرًا ما كان الأحبة والمقربون ينصحونني بأن أخفف من لهجتي ونبرتي، في ما أنشره على صفحتي في الفيس بوك، وغيرها من صفحات التواصل الاجتماعي.
ولا أخفيكم أنني كنت -عمليًا- أخاف من الاعتقال. طبعًا أخاف، فقد جربته يومًا، لكني لم أجرب القنص من خلال النافذة. لذلك؛ كنت أسدل الستائر أيضًا؛ كي لا يحاول أحد أن يتسلى بقنصي، وبخاصة في عتمة الليل البهيم. لكن فرحتي بالثورة ورغبتي في التغيير، وإعجابي الشديد ببسالة الشبان السوريين، المستعدين للموت، الهاتفين للحرية والكرامة في شوارع دمشق وحاراتها، جعلني أكابر وأنتصر -كل مرة- على تلك المخاوف والهواجس العميقة.
كنت أنتظر قدومهم كل يوم وكل ليلة. هم أو غيرهم من الرجال المدججين بالسلاح الذين يطرقون الأبواب بأقدامهم، ويقتحمون البيوت من دون إذن. كم مرة طُرق الباب بعنف، وقلت: أتوا. ليتبين لي أن الطارق هو بائع الماء، أو أحد الجيران أو المحتاجين… وكم مرة أعطيت هويتي للحاجز وتوقعت أن يعتقلونني فور رؤيتهم صورتي، أو قراءة اسمي! وكم مرة اعتقلوا أو اختطفوا رفيقًا لي، أو سلّموا جثة ناشط مدني مثلي، قتلوه تحت التعذيب، وقلت جاء دوري.! لكن شيئا من هذا لم يحدث حتى الآن؛ بل حدث ما هو أسوأ.
ذات ليلة، وبينما كنت منكبًا على كتابة قصة قصيرة، عن كلب هاجم رجلًا كان يدربه على مهاجمة المتظاهرين؛ سمعت –وبمحض الصدفة- صوت كلب حقيقي يتردد عبر نافذة مكتبي المغلقة. في البدء ظننت أن ذلك الصوت كان وهمًا! فالساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وكان من الطبيعي أن تسمع أصوات الكلاب في مثل هذا الوقت؛ إذ تتوقف أصوات القذائف والرشاشات والصواريخ. لكن هذا لم يكن نباحًا أو عواء ذئب، بل مجرد مقاطع صوتية عشوائية، هي أقرب إلى الأنين والتوسل والبكاء منها إلى نباح الكلاب! أصوات متقطعة رفيعة واهنة، توحي بأنها لجرو صغير جائع، أو ربما لكلب جريح.
توقفت عن الكتابة وحبست أنفاسي. كان الصوت يأتي من الخارج وليس من داخل رأسي بالتأكيد! لم أكترث -في البداية- لهذه الصدفة العجيبة. حاولت أن أنسى وأتابع الكتابة، لكن الصوت راح يعلو ويخبو وينشج ويتذبذب، مشحونًا بالعواطف والمشاعر الإنسانية؛ كما لو أنه يناديك أو يستجير بك، طالبًا حمايتك… لم أتوقع أن يكون هذا المخلوق قريبًا إلى هذه الدرجة! نهضت واقتربت من النافذة كي أفهم ماذا يحدث! كنت أعيش في الطابق الخامس، الضوء مطفأ في الحي، والشارع خال تمامًا من المارة، وبالكاد تبين لي، على ضوء نافذتي، أنه كلب كبير جدًا، يدور حول نفسه، محاولًا أن يخفي توتره وغضبه. توقعت أن أرى إلى جواره رجلًا أو دورية رجال! لكن عندما فتحت زجاج النافذة ودققت في المشهد، اكتشفت، على الرغم من العتمة، أنه قد رُبط وحيدًا إلى عمود الكهرباء المقابل لشقتي مباشرة.! وسرعان ما شعر هو بي، وكف عن الأنين والدوران، وقف في مواجهتي متحفزًا، ولمعت عيناه في العتمة، ثم نبح بقوة وشراسة، متحولًا إلى وحش حقيقي.. أقفلت النافذة مباشرة، ورحت أراقبه من شق في الستائر السميكة…
إنه كلب بوليسي شرس، من نوع “جيرمان”. أسود على ذهبي، يحيط بعنقه طوق جلدي فاخر. له خطم كبير أسود ولبدة صفراء، وأذنان مثلثتان منتصبتان مثل شارة النصر. راح ينظر إلى نافذتي، ثم يحثو التراب بإحدى قائمتيه، ليعود وينظر نحو نافذتي، وينبح بشدة.
ما الذي أتى به إلى هنا!؟ إنه يشبه كلب قصتي!! من الذي ربطه في هذا المكان!؟ ولماذا ينظر إلى نافذتي تحديدًا، تلك النظرة المتحفّزة المتوعّدة!؟
على الرغم من أنني أحب الكلاب، لم أشعر بالخوف يومًا، كما شعرت في تلك الليلة المظلمة. أنزلت “أبجور” النافذة بسرعة، أطفأت الضوء، وأيقظت زوجتي التي كانت تنام مع الأطفال… قررنا على الفور أن نخفي كل ما نملكه من وثائق وسجلات ونقود، تعود إلى جمعية مدنية محلية، كنا نعمل فيها، وكانت تهتم بإغاثة النازحين الذين دُمرت بيوتهم، وهربوا من الحرب في الغوطة. كنا نوفر لأطفالهم الحليب والحفاظات والحقائب المدرسية والدفاتر والأقلام. قمت بمسح كل ما أملكه من أشعار وقصص ومقالات في حاسوبي. أغلقت حسابي وحساب زوجتي في الفيس بوك والتويتر والسكايب. كانت زوجتي أقل توترًا مني، لكنها -مع ذلك- دسّت علم الثورة في كيس أسود، ورمت به -عبر شباك المطبخ- إلى المنور. استمر الكلب في العواء. ظنت زوجتي أنه مجرد كلب، وأنه رُبط هنا بالصدفة ربما. وكنت أقول لها: لكنه كلب “جيرمان” من نوع “FARFESH”، سعره يفوق سعر الدراجة النارية يا عزيزتي! الكلب نفسه الذي أكتب عنه!! من سيربط كلبًا بوليسيًا نادرًا، في عمود كهرباء، أمام “بنايتنا” تمامًا! وبعد منصف الليل! ولماذا يفعل ذلك!؟
اختلسنا النظر عبر “أبجور” النافذة. كان ما يزال هناك يجلس على ذيله ويرفع خطمه الأسود مستنفرًا، وقد تطاول كثيرًا على قائمتيه الأماميتين، حتى حسبناه رجلًا ينظر إلينا، لو لم ينبح من جديد.!
لم يكن ذلك كابوسًا! كنت واثقًا من ذلك؛ مع أن حياتنا تحولت إلى كوابيس سريالية، في الليل وفي النهار، تتخللها بعض الأفعال الواقعية العادية، التي لا يمكن حشرها مع فصيلة الكوابيس. لكن ما إن قُرع باب بيتنا بتلك القوة؛ حتى تحول الأمر كله إلى كابوس حقيقي…
تسمرت في مكاني.. وتبين لي أني كنت وحيدًا في مكتبي. لم أجرؤ حتى على مجرد الاقتراب من الباب.. فجأة سمعت صوت حركة وقرقعة في المطبخ؛ ثم ظهرت زوجتي، وهي تحمل طنجرة الحليب الفارغة.. نظرت إليّ دهشة وسألتني بصوت حيادي ناعس: “ما بك! ألم تنم بعد!؟ هل أزعجك هذا المتخلّف؟” لم أستطع الجواب. أشرت إلى الباب متلعثمًا: “الباب!” فقالت ساخطة: “إنه بائع الحليب… كم مرة قلت له أن يقرع الباب بهدوء…!