مقالات الرأي

ليست موجة للركوب

التحدي الأكبر للثورة السورية بشبابها، وأطرها، وفى المعارضة المنضوية فيها، والهيئات التي أوجدتها الضرورة.. أن تثبت أنها ديمقراطية بالفعل، وأن تجسّد ذلك فهمًا، ومسلكًا، وعلاقات داخلها، ومع الآخر، وهو التحدي الذي يبرز اليوم بقوة بعد سنوات من الخلط والاختلاط، وشيوع فكر أحادي أراد جرّ الثورة إلى قفصه الخاص، وتعميم ذلك بانتسابه إلى الدين، والمقدّس، وإلى نوع من الاحتكار الذي يحمل في صلبه نفي الآخر، واعتقال الرأي المعارض، بل وتجريمه، وعدّه كفرًا، وإلحادًا، ومروقًا، في حين أن سرّ قيام الثورة واستمرارها يكمنان في تحقيق شعاراتها الأساس: الحرية والعدالة، والكرامة، وفي ما أجمعت عليه معظم أطياف المعارضة وهيئات الثورة في مؤتمر المعارضة بالقاهرة تموز/ يوليو 2012 الذي نصّ على إقامة الدولة المدنية الديمقراطية. دولة المواطنة المتساوية لجميع السوريين بغض النظر عن الجنس، والقومية، والفكر، والدين، والمذهب.

كان التحدي، وما يزال يتلخّص في ممارسة الديمقراطية من المنتمين إلى الثورة، واعترافهم بموقعها، وبلوراتها، وأن تُجسّد في الميدان، وفي طروحاتها وتعاملها مع جميع مكوناتها لتكون أنموذجًا مختلفًا عن عقل الاستبداد والأثرة، والدهلزة، والعموميات.

الديمقراطية ليست شعارات تصدير، وليست موجة ركوب، أو غيمة صيفية لا تجلب الغيث، أو خريفية عابرة.. الديمقراطية هي الإيمان بالرأي الآخر، وحق الآخر بالاختلاف، مهما كانت طبيعة الاختلاف والمسافة، والخلفية، وهي التأكيد على أن الحقيقة عامة، ونسبية وليس لأحد حق ادعاء امتلاكها، أو احتكارها، أو حجبها عن الغير، وهي مضادة للعصبوية والحزبوية الضيقة، والأدجلة المأسورة، ومقدسات التابوهات التي ينصبها بعضهم ضد بعض.

الديمقراطية هي الحوار والتفاعل وفهم واستيعاب الآخر، وليس الاحتراب واستخدام القوة، والتحايل، والخبث، وهي الاختبار الأكبر لنا لمعرفة إن كنا جديرين بها، أم أنها مجرد قشرة رقيقة، وغطاء تدليس.

قد نبرر كثيرًا فعل الاستبداد فينا، وموقع بنى التخلف في تكويننا، ونمطية ما اعتدناه في الأحزاب العقائدية على النمط الستاليني (معظم الأحزاب اليسارية واليمينية مارست الستالينية بأشكالها المختلفة)، وجدّة هذا الفكر علينا، وطغيانه الذي أجبر كثيرين على الانصياع له: طوعًا وإيمانًا، أو إرغامًا.

لكن التبرير حالة ذاتية تخصّ أصحابها ولا مكان لها في عجلة التاريخ التي تملي على المنادين بها، ولو شكلًا، وجبريًا، وموضويًا أن يبذلوا الجهد المصمم على خلع بقاياهم السابقة: الأحادية والاستبدادية فيهم، وأن يقوموا بعمليات نقد شجاعة لعقلهم وفكرهم وخطابهم وممارساتهم الذي أثبت تطور الحياة تخلفه، وعجزه وواجب تهديمه لبناء البديل.

قد نشفع لأنفسنا أننا حرمنا منها عقودًا، وان أجيالًا متعاقبة لم تسمع بها، ولم تعرف شيئًا عنها، وأنها تتعلمها اليوم وسط انفجار الاحتقان بكل زخمه وفوضاه ومستوياته وتنوعه وتداخله، وأن تعلمها ليس بالأمر اليسير، ويتجاوز التلفظ والشعارات إلى العمق في تغيير عقلياتنا، وبقايا الأحادية، وآثار ومخلفات الاستبداد فينا، والأنا المتديكة، والأنا الطاووسية، والأنا النرجسية، والأنا المصابة بعاهات الانفصام، وبثور التخلف ..وأن الناس بطبيعتهم يسبحون في المياه السطحية وقليلهم من يغوص إلى الأعماق لاكتشاف مكنوناته، وهذا واجب ودور القيادات والنخب التي تضع نفسها في موقع المتنطع لمسؤولية القيادة وتكوين الوعي، وبلورة الأفكار.

إننا واليوم نتصدى للاستبداد والأحادية والدكتاتورية، ونظام الطغمة، ونعلن الثورة عليها أساسًا لما فعله بالشعب والوطن … يجب على المعنيين في جميع مواقعهم أن يعوها أولًا، وأن يتمثلوها ويجسدوها أفعالًا ومواقفًا، وعلاقات مع الغير، وأن يطرحوا رؤيتهم الكاملة وموقعها فيهم، وفي الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة، ومفاعيلها ومرتكزاتها الأساس، وأن ينتقلوا من العموميات إلى التخصيص، ومن التهويش والتحريض على بناء الآفاق الذي ستنهض عليه المرحلة الانتقالية، والنظام التعددي المقبل.

صحيح أننا في مرحلة صعبة مخاضها بلون الدم، وعدونا استثناء، والزمن طويل، والاحتمالات متقلبة.. بما يستدعي توجيه كل الجهد والاهتمام للمعركة الرئيس، وبما ينتج عن ذلك من ردود فعل على فعل عنيف يمارسه نظام الطغمة، يكتسي ما يشبه الغرق في اليوميات والأحداث، وفي تركيز الجهد الكبير لتحقيق الانتصار بوصفه الخطوة الأولى التي لا بدّ منها لولوج المقبل: البديل.. لكن كل المبررات، كل الانشغالات لا يمكن أن تنسينا تفصيح الغاية التي من أجلها يثور ويضحي الشباب بدمائهم، ولا صورة المقبل لدولة عصرية مشرعة الأبواب لكل الاتجاهات والآراء، لخصب العطاء والإبداع المتنوع، لجميع الاتجاهات والتيارات والمكونات. دولة الحريات العامة التي تبدأ من حرية الفرد، والأسرة وصولًا إلى المجتمع. الدولة التي تقدّس الإنسان غاية ومآبًا، وتتعامل معه باحترام يحفظ كرامته، ويمنع الإذلال، والتفريق، والتعذيب، والفوقية.. وكل ذلك في إطار دستور يرسي أسس الدولة الحديثة، وقوانين تحدد الحقوق والواجبات فترتقي بالمواطنة من الرعاع والقطيع ومفهوم الرعية إلى الشعب السيد صاحب السلطة، والغاية، وإلى مفهوم المواطنة بمعناها الشامل.

إن مظاهر كثيرة لرموز، وأسماء محسوبة على الثورة السورية -بهذا الشكل أو ذاك، وإلى هذه المسافة أو تلك- مخيفة، ولا تطمئن بما تطرح أو تفعل لأنها تحمل في صلبها نويات استبدادية ظاهرة، وتشبيحية أيضًا، وطائفية أيضًا وأيضًا، وهناك من يتمنطق بالأكثرية والأقلية، ويذهب بعضهم إلى أمداء أعمق في الكلام عن الغبن وواجب رفعه.. وكأننا أمام الوجه الآخر لعملة المظلومية ومفرداتها وكيف فعلت بالعراق.. وكيف تدمر وتجوّف الديمقراطية بما لا يبقي منها حتى قشورها المتفسخة، ومحاولات الانجرار إلى أتون حرب مذهبية تتحول إلى صراع بين “أهل السنة” والشيعة ومن معهم، وهي تستمد من وقائع دامية، وعمليات تهجير تتركز على السنة بعض ألسنة اللهب لقصم ظهر الثورة، وانكفائها، وتشويهها، أو وضعها في مكان ليس لها.

كما وهناك من يفهم الديمقراطية على أنها مجمّع الأديان والمذاهب والطوائف والعشائر والأقليات القومية بتقديم وجبات من المحاصصة على هذا الأساس.. وكفى الدولة الديمقراطية ديمقراطية.. حين لن تقوم دولة وإنما كانتونات تعيدنا إلى قرون “نظام الملل” ومنطق الشعبنة التي كانت تطلق على أصحاب الدين والمذاهب.. ومن ثَمّ؛ عملية تفسيخ ترتدي ثوبًا عصريًا مزركشًا وليس دولة مدنية ديمقراطية، عصرية تنتعش وتحيا فيها الأفكار والاتجاهات والخيارات السياسية، ويمارس فيها أهل العقائد عقائدهم بكل حرية، بعيدًا عن التسييس.

اليوم، والثورة السورية أمام حصاداتها؛ فعليها أن تنجز انعطافتها بالعودة إلى صلبها، وأسباب قيامها. الثورة الشعبية، السلمية، التي تهدف إلى إنهاء الاستبداد والأحادية: نظامًا وفكرًا، وإرثًا، وبناء البديل التعددي المختلف، وعلى القوى الإسلامية، بطيفها المتعدد، ومدارسها أن تؤكد إيمانها بأهداف الثورة التي لا تقف عند إسقاط النظام، بل بالبديل الديمقراطي، وأن تتخلى عن الأدلجة، وفرض رؤى خاصة أساءت كثيرًا إلى روح الثورة، وأضعفت حواضنها الداخلية، والعربية والرأي العام العالمي.

مقالات ذات صلة

إغلاق