كلمة جيرون

هل آن الأوان لتمجيد النقد الهدّام

التواصل الإبداعي والسياسي والحزبي وغيره من أشكال النشاط البشري، مشروط بوجود عوامل كثيرة أهمها -على اﻹطلاق- وجود قطبين أساسين ندين، هما المرسل والمتلقي (شعب/ سلطة، إبداع/ جمهور، منتج مستهلك) اللذين لا يمكن أن يحدث التفاعل بغياب أحدهما! لأن الغاية الأولى-كما هو معروف- هي التفاعل بين الناس؛ سواء كانوا مجموعة أم أفرادًا. لكن هل يكتمل التفاعل بوجود هذين الركنين فقط؟ والجواب -حتمًا- لا، ﻷن هذين اﻷساسين واجبا الوجود والتجاوب، لكنهما غير كافيين، فثمة ركن ثالث لا بد من وجوده كي تكتمل دورة الحياة، وهو النقد.

هذا الركن “يُعد وحده المنتج” كما وصفه برتولد بريخت، وهو نشاط إنساني عقلي أصيل، يمارسه البشر منذ الأزل، لأنهم يملكون القدرة -دون غيرهم من الكائنات- على المراقبة والتحليل وإعادة التركيب، وكشف المثالب والعيوب، في ما تنتجه المجتمعات من إبداع وفكر ومفهومات وقوانين. لذلك، ما كان للبشرية أن تتطور وتتقدم؛ كما لم يكن للطب أو التكنولوجيا أو المهن القديمة أن تصبح حديثة، بمعزل عن نقد عيوبها. إنه عمل فني خلاق بامتياز، ليس لأنه يمتلك عناصر الإبداع كلها فحسب، بل لأنه يسلط الضوء على مثالب المنجز القديم، ويفتح الآفاق والمدارك على ما هو أحدث وأجمل وأسهل وأكثر فائدة للناس.

إن التوق إلى التغيير هو من قاد العملية النقدية عبر تاريخ البشر، وفسح المجال أمام الحداثة، على أرضية المعرفة والقدرة على التحليل والكشف الذي يقود –بدوره- إلى تفكيك الحاضر المهيمن واستشراف المستقبل المختبئ بداخله. لذلك، لم يتعرض نشاط بشري، عقلي ومعرفي، للقمع والاضطهاد والتزوير، كما تعرض له النقد. وهذا أمر بدهي، فهو النفي وهو الرفض وهو الرغبة في التغيير والتجديد، وهو قبل ذلك، عملية تحليل وتركيب ونقض للسائد المسيطر، المعادي -حكمًا- لأي تغيير أو تعديل أو خدش.

نقد أدبي وفني، نقد سياسي واجتماعي، نقد فساد واقتصاد وإدارة، نقد عادات وتقاليد وموروث ثقافي وديني وأخلاقي…، يقود بدوره إلى نقد السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والحزبية الحاكمة، تخشاه الأنظمة الشمولية وسلطات الاستبداد –عمومًا- وتعمل، أكثر من أي سلطة أخرى، على تحريف جوهره، عندما تعجز عن وأده ومصادرته، لتحل كلمة “نعم” في مكان “لا”،  وليصبح المديح والتصفيق بديلًا عن الاعتراض والتذمر، وتسود ثقافة الخوف والترويض وشراء الضمائر وتزييف الحقيقة وتسويق الرذائل والأكاذيب وتبرير العيوب و”العذاريب”؛ وصولًا إلى تحريف الجوهر الحقيقي للنقد، وتحويله إلى سلعة عند الطلب أو عند الحاجة.

الأحزاب السياسية، بوصفها سلطة -سواء كانت تحكم أو تعارض-، اخترعت -منذ نشوئها- مقولة “النقد البنّاء”! وإذا كان ظاهر هذه المقولة حقًا، فهل أرادوا به باطلًا؟ وهل يمكن للنقد أن يكون بناء؟ يمكن -بالتأكيد- بل هو كذلك بطبيعته، لكن ليس على أرضية ما أراده الرفاق، والنظام الداخلي، الحزبيون، وأنظمة الاستبداد الشمولية، التي تخاف من طبيعة النقد الهدامة/ البنّاءة.

نعم، النقد بطبيعته هدام ومتجاوز، ومَهمته الأولى هدم السيئ فينا، وفي كل ما أنجزناه من قيم وثقافات. فهو لا يهدم إلا العائب في البناء، ولا يتجاوز إلا العقبات والمساوئ التي تعيق التقدم نحو الأفضل. والرفاق القادة يعرفون ذلك جيدًا، ويعترفون به -ضمنًا- عندما يستبدلونه بمقولة “النقد البناء” الحزبية والسلطوية التي يجب على الجميع الالتزام بها، فلا يكون النقد بناء -برأيهم- إلا إذا كان داخل الحلقات الحزبية، ودون المساس” بالثوابت” وإذا خالف الناقد شروط المنقود يُعاقب بقسوة، قد تصل إلى التصفية الحزبية أو حتى الجسدية! لأن النقد الهدّام يصب في “مصلحة العدو” و”يثبط عزيمة الأمة”! فمن أي شيء يخاف هذا القائد المنقود، إن لم يكن على نفسه ومكاسبه وتأبيد وجوده ومنهجه، وحماية نفسه من المراقبة والمحاسبة!؟

إن معارضة اليوم جلّها، إن لم نقل كلها، تذكرنا بمعارضة الأمس، والأحزاب السياسية البائدة “الأبدية” التي لا تسمح بالمراقبة والمحاسبة، متناسية أن السلطة التي لا تسمح بذلك؛ حتى لو كان هدّاما، سلطة ناقصة، وغير شرعية، وأن “النقد البناء” لا يعدو كونه تعبيرًا منمقًا فحسب؛ لتدجين النقد وتحويله إلى بوق يخدم سلطتها وتأبيد وجودها.

فهل آن الأوان لتمجيد النقد الهدام!؟

مقالات ذات صلة

إغلاق