تحقيقات وتقارير سياسية

على بوابة جنيف من يحرق آخر مراكبه

أحرق طارق بن زياد السفن، ولربما لم يحرقها كلها فعليًا، لكنه وضع الحدّ لخيارات التراجع والانسحاب، حددّ الهدف والبوصلة، ولم يترك مسافة للشك تراود النفوس في انسحاب أو تراجع، فلا خيار سوى النصر، فكانت الأندلس بعدها.. ولربما يخطر للفكر البشري الشطط في التقييم، وهذا حقه، فيقول قائل كانت غزوًا، وآخر مؤامرة، وكثير يقولون نصرًا… ولكن ماذا لو قلنا إنها لحظة الفعل الأولى في التحديد والنفي؟ فبغض النظر عن التقييم المنسوب لصاحبه، كانت الحد بين خيارين هي نفي لإحداهما وتعيين لآخر، وهنا كانت أصل الحكاية.

يدرك السوريون، وجميع السوريين اليوم، أنهم على مفترق طرق، قد تكثر فيه الخيارات إلى ما نهاية، وقد تختلط أوراقها سياسيًا وثوريًا بين الفينة والأخرى، وقد تتمدد أو تتقلص بحسب معايير ومواصفات عدة، فها هي جنيف 4 تبتعد خطوات عن مرمى حجر السوريين؛ لتؤجل من 8 شباط/ فبراير إلى 20 منه، وربما إلى آذار/ مارس! فليس غريبًا قط أن تسأل لماذا؟ فيأتيك الجواب ببساطة: أنهم يرتبون شكل سورية، ولربما ليس كلها! تسأل من هؤلاء؟ يأتيك الجواب مؤكدًا، هم ليسوا من حرقوا السفن…!

ليست المرة الأولى التي تُعقد فيها مباحثات جنيف، فكانت 2،1، و3 في 1/1/2016 والمؤجل لأكثر من مرة، في ما بات يسمى بالمسألة السورية، أو بالأزمة السورية، فقلة من صانعي القرار العالمي وإعلامه من يذكرون أنها ثورة؟ وفي أحسن صورها تسمى المسألة السورية، وحقيقة الأمر أن الثورة السورية خاصة، باتت مسألة عالمية تتنازعها الأطراف العالمية من جوانب عدة، أوضحها وأقربها للوضوح، المشروع الروسي ويتبعه المشروعان: الإيراني في الهلال الفارسي، والتركي في حماية الحدود من خطري تنظيم الدولة الإسلامية والأكراد. فالروس، وقد وضعوا أقدامهم بقوة في المياه الدافئة مرة أخرى، بعد أن كادوا أن يخرجوا منها نهائيًا إن نجحت الثورة السورية، لم يتركوا حيزا جيوبولتيكيًا ولم يستخدموه؛ لتحقيق غرضهم في المدى البعيد، وهو عودة روسيا إلى مربع القوة العالمية صانعَة قرار أساسي فيه، إن لم تكن قطبًا ثانيًا، ولربما يطمح بوتين لعودة القيصرية الروسية إلى واجهة الصدارة العالمية، ولسان حاله يحدثه: وما المانع، أين كانت أميركا هذه عندما كنا إمبراطورية عظمى، وعندما كانت سورية ذاتها، أيام النزاع العثماني و محمد علي عليها 1831-1833، جزءًا مما يسمى بـ “المسألة الشرقية”، وكان للروس وقتها اليد الطولى في وقف تمدده وعودته إلى مصر؟

قبيل جنيف 4، يحاول الروس بكل ما استطاعوا من سبل سياسية ودبلوماسية، تثبيت سياسة الأمر الواقع الراهنة، فقد حققوا “نصرًا” عسكريًا على أكبر معاقل المعارضة السورية في حلب، كان صعبًا جدًا أن ينالوه لولا ترتيبات شروط الأرض والعمليات العسكرية مع الأتراك، وهم من يدرك، في الوقت نفسه، الخطر المقبل على مشروعهم في تثبيت هذا النصر الضحل على مدينة كحلب، بل حلب الشرقية جزء منها، من خطر القوى الميليشوية الإيرانية المهيمنة على عمليات القوى البرية، فكان اتفاقهم مع الأتراك لتعديل هذا التمدد من جانب، وحل المسألة الاقتصادية الاستراتيجية المهمة والحيوية لخطوط الغاز، ونقله عبر تركيا.

روسيا التي قدمت حزمة متقنة الصنع سياسيًا في السياسة الدولية، قد استخدمت حق النقض مرتين متتاليتين ضد الهدنة في حلب، في تشرين أول/ أكتوبر و كانون أول/ ديسمبر 2016، ولكنها لم تتوانَ أبدًا عن تمرير القرار 2336 في 31/12/2016 القاضي بوقف الأعمال القتالية على الأرض السورية، بعد أن حققت شهوتها بالنصر في حلب الشرقية وتهجير سكانها، وهي ذاتها التي عقدت لقاء آستانا في 23-24/1/2017 جمع الفصائل العسكرية السورية الموافقة على وقف القتال مع النظام؛ لتثبيت الهدنة ومفاعيلها على الأرض، وفي الوقت نفسه، كانت تغض النظر عن تهجير سكان عين الفيجة في القلمون الغربي بعد الحملة العسكرية عليها! وهي التي حضرت لاتفاق ثلاثي مع كل من تركيا وإيران، الندين إقليميًا والمتشاركين في مشروع الهيمنة وتقاسم النفوذ إقليميًا أيضًا.

وروسيا أيضًا، حققت أعلى مبيعات لها للسلاح في العامين 2015 و 2016، فقد فاقت 13 مليار دولار في كل منهما، ونافست الولايات المتحدة الأميركية على المرتبة الأولى فيه، كما قال موقع الأمن والدفاع العربي في 27/12/2016، إذ نقل الموقع عن لسان سيرجي شيميزوف، رئيس مجموعة “روستك” المملوكة للحكومة الروسية، أن “روس اوبورون إكسبورت” الروسية المتخصصة ببيع السلاح في “روستك”، قد حققت 12.7 مليار دولار عام 2015، حسب “رويترز” أيضًا، والمعروف أنه لم يكن للشركة أن تحقق كل هذه الأرباح لولا رفع الولايات المتحدة العقوبات جزئيًا عن رئيس الشركة، سيرغي شيميزوف، منذ العقوبات المفروضة عليه عن دور روسيا في المسألة الأوكرانية. وأيضا روسيا ذاتها تمرر الدستور السوري وتقول فيه: ليس بالضرورة أن تبقى الحدود السورية على ما هي عليه! وفي الوقت نفسه، تبرم اتفاقية طرطوس في حصانة كاملة من القوانين السورية لـ 49 عامًا قابلة للتجديد، ولم يظهر للعيان بعد موضوع غاز القلمون أو غيره من الثروات الدفينة هناك قيد البحث والتدقيق.

يرتب الروس قبيل جنيف 4  موقعهم العالمي، بوصفهم “صانع سلام” في المنطقة عالميًا على حساب الدم السوري ومدنه، والإيرانيون يرتبون مواقع سيطرتهم على مواقع سورية عدة، والأتراك يقطعون المشروع الكردي محاولين العودة إلى نظرية “صفر مشاكل مع الجيران”، والأميركيون، ومن خلفهم الإسرائيليون، يرتبون أمنهم القومي وحدود مداه الجيوسياسية، فلا غرابة أن يتأجل جنيف وموعده أيضًا في هذه الزحمة من المصالح العالمية على الأرض السورية.

يبدو التحليل السياسي في هذا السياق متداخلًا ومعقدًا، وتبدو انعكاساته على حملة المشروع السياسي السوري أو المشروعات السياسية السورية “بتصرف”، فقد تغيرت وتبدلت كثيرًا مشروعات كثيرين، بحسب مقتضيات المصلحة الذاتية أو الفئوية أو الأجندة الأيديولوجية، فبعضهم يحبذ الفيدرالية، والآخر يود النصر الروسي لاعتقاده أن الشيوعية تمر من موسكو بعد! وآخرون يحبون نصر النظام خشية ألا يصحوا يومًا ولا يرددون فيه شعار البسملة القومية: أمة عربية واحدة أو للبعث يا طلائع! وآخرون يرغبون في التقسيم؛ تثبيتًا لكردية ضيقة أو علوية أو درزية طائفية ضحلة الأفق والموارد، أما أولئك الذين حرقوا مراكب العودة إلى حضن الاستبداد والهيمنة والتهميش، أولئك الذين اقتلعوا من مدنهم أو تشردوا في بقاع الأرض، أو من فقدوا أبناءهم و أخوتهم، أو فُصلوا من عملهم وذاقوا ويلات الحرمان، أولئك الذين ما تخلوا لحظة عن هويتهم السورية في الدولة الوطنية، حيث لا بعث قائد، ولا عسكر يأمر ولا أمن يعتقل ولا قانون طوارئ أو إرهاب يبيح الموت اليومي، ولا مستثمرًا في الأرزاق السورية بمراسيم استثمارية واهية(المرسوم رقم 10) ملّكت سورية لقلة من المنتفعين، ولا احتكار لسلطة ولا كمًا لأفواه، هؤلاء هم من حرق مراكب الذل والهوان، وهم عليهم أن يبنوا مركبًا واحدًا يستطيع العبور بين كل المشروعات السياسية المقيتة، هم الذين عليهم أن يعبروا بسوريتهم وهويتهم إلى أفق جديد، فجنيف 4 لا يمكنها أن تعبر إلى دمشق التي نرغب، ولن نعبر إلى دمشق إلا إذا حرق بعضهم زوارقه الغارقة في وهم أيديولوجياته المتآكلة، وصنع مع الباقين ممن حرقوا مراكبهم سلفًا، منذ أطفال درعا إلى اليوم مركبًا واحدًا لسوريتهم، وليختر كل منهم زاويته بعد ذلك .

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق