مقالات الرأي

السيد ترامب وأميركا الجديدة

في حملته الانتخابية، وعندما كان يملأ الدنيا بشعاراته الشعبوية التي استطاع من خلالها التأثير في من وصفهم “بالمهمشين”، من جهة، وفي رجال الأعمال؛ ليعيدوا استثماراتهم إلى لأرض الأميركية، من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة، يُفصح عن آراء غير معتادة في السياسة الخارجية لدولة كانت القطب الأوحد في إدارة العالم، تجاهل المفكرون والمحللون كثيرًا مما قاله على أنه حملة إعلامية، يُقال فيها -عادة- ما يستجلب جمهور الناخبين، لكن ليس بالضرورة الالتزام بما يُقال، فالمؤسسات الديموقراطية عادة تعيد الأمور إلى نصابها،  بعد تنصيب  الرئيس الجديد ودخوله البيت الأبيض…ومثلما كان يُقال الرئيس في الحملات الانتخابية يختلف عن نفسه عندما يستلم المسؤولية.

لكن المتتبع لما قاله في حملته، وقراراته التنفيذية اليوم، لا يجد ذلك الفارق الذي كان ينتظره، وكأنَ ترامب كان يحمل في عقله ومخيلته فلسفة متكاملة تجاه الداخل والخارج، والمرأة والأقليات المندمجة بالمجتمع الأميركي، من كل جنس ولون…وعندما جلس على كرسي الرئاسة سارع بإصدار تلك القرارات- ربما ليبرهن عن صدقية حملته، أو ليعبر عن قناعته التامة بذلك التوجه.

كان الشعار الأساس الذي كان يردده وأعاده بعد ذلك في مؤتمراته الصحافية، وفي خطاب التنصيب: أميركا القوية، إعادة المكانة العالمية لأميركا التي فقدتها بسبب سلبية أوباما، وكانت -كما يبدو- قناعته بأن المهاجرين اللاتينيين والمكسيكيين يشكلون عنصرًا ذا تأثير في إضعاف أميركا، لذا؛ اقترح الجدار الفاصل لمعالجة المشكلة، أما العنصر الثاني المهم، فهو سياسة العولمة التي سببت هجرة الاستثمارات الأميركية إلى الخارج، وأغلقت في المقابل كثيرًا من المعامل، وألقت بعمالها في مجاهل البطالة، وربما ليُجيش الرأي العام الأميركي؛ لقبول فلسفته تلك، استغل فكرة الإرهاب وأعاد إلصاقه بالإسلام، وقرر منع المسلمين الجدد من أن يتحولوا إلى مواطنين أميركيين، ولاسيما الآتين من دول مضطربة، تحوي بؤرًا إرهابية، أما أوروبا فهي عبء مع “ناتوها” الذي لم يعد ذا وظيفة تُذكر، وخاصة إن استطاع التفاهم مع روسيا الصاعدة سياسيًا وعسكريًا، والفقيرة اقتصاديًا.

قد تبدو تلك الآراء – للوهلة الأولى- نظرية متماسكة صالحة للحكم، وحل المشكلات المتأزمة في البلاد، لكنها -في العمق- تعكس فهمًا مسطحًا يحمل من الجهل ببواطن الأمور وجذور الأزمات، وضعف الثقافة السياسية والإنسانية قسطًا غير قليل، فإذا جُمعت تلك المظاهر مع شخصية هوجاء أقعدها ما تملكه من مال على كرسي الرئاسة، وملأها غرورًا وفردية، كانت الكارثة على البلاد غير مستبعدة.

ماذا يعني بناء جدارٍ مع المكسيك؟ ومعظم اليد العاملة في ثلاث ولايات أميركية على الأقل، من المكسيكيين، حتى لا تكاد تسمع فيها اللغة الإنكليزية، والعالم -كما قال بابا الفاتيكان يومًا تعليقًا على بناء إسرائيل لجدارها العنصري- يحتاج لبناء جسور محبة وليس جُدُر كراهية، وماذا يعني إعادة المسلمين الآتين من سبع دول بعد حصولهم على تأشيرات دخول؟ وماذا يعني التخلي عن أوروبا، ومجابهة الصين اقتصاديًا، والعودة إلى سياسة الضرائب المرتفعة على البضائع غير الأميركية؟!

إن تلك الأفكار والقرارات تضع الأميركيين في “غيتو” معزول عن العالم؛ بذريعة حمايتهم،

ظانًا أنه يصنع من خلاله زعامتها الجديدة، ومحققًا شعاره “أميركا القوية”، فالتناقض الذي يدركه -أو لا يُدركه- السيد ترامب بين العزل الأميركي عن العالم واصطناع أعداء وهميين، وبين استعادة القوة السياسية والاقتصادية إليها، من الصعب عدم رؤيته، فالعنصرية لا تصنع قوة ناعمة تتمدد فيها أي دولة وتُبرهن على قوتها المهابة، إنما تصنع عزلة تسجن نفسها فيها وعدوانية داخلية وخارجية تصبغها بلون الكراهية الأسود، وعندما تتزاوج تلك العنصرية بنوع من التفرد بالقرارات، وتعتمد على أنها رئاسية تُلغي مؤسسات النظام الديمقراطي جميعها،  وتتجاهل نصائحها، وهي أعمدة النظام،  بل ويسرح المخالفين لرأيه، ويدفع بعض موظفي البيت الأبيض ليقولوا لمجموعة ديبلوماسيين احتجوا على قراراته الأخيرة، وعدّوها فضيحة من النوع الثقيل: “إن لم تعجبكم استقيلوا”، ثم يوظف أقصى صلاحياته الدستورية، مع تجاهل أهم بنودها، فإن صاحب السلطة لا -ولن- يصنع دولة قوية، بل يهدم بناءها التاريخي بجهله ومزاجه إن كانت نياته صادقة، ولا أظن أن أحدًا يُشكك في نياته في هدم بلاده، لكن قاعدة الشاعر العربي قد تنطبق عليه، فإن كان لا يدري فتلك مصيبة، أو لم يكن يدري فالمصيبة أعظم.. وهاهي ولاية كاليفورنيا تُعلم رسميًا الحكومة الفيدرالية أنها ستُجري استفتاء حول انفصالها عن الكيان الفيدرالي الأميركي؛ بسبب معارضة مواطنيها لسياسة الرئيس ترامب المخالفة للدستور وللقيم التي تأسست الولايات المتحدة عليها..

إن الأفكار الترامبية التي يعتقد أنه من خلالها سيصنع أميركا الجديدة، لا تؤثر في تحويلها إلى معزل كراهية كبير فحسب، وإنما خطورتها تتضح في تمزيق المجتمع الأميركي وتفكيك دولته أيضًا، وتشجيع العنصرية والكراهية في العالم كله، وها هي كندا، أقرب جاراتها وأشدها إنسانية وديموقراطية، تشهد القتل في المسجد مثلما تشهد أميركا نفسها إشعال النار في المركز الإسلامي في مدينة فيكتوريا بولاية تكساس على يد “مجهولين”، إنهم إرهابيون عنصريون. كما تشهد أوروبا تنامي الفكر العنصري المتطرف، فقد تعرض 356 مسجدًا فيها لاعتداءات خلال عام 2016، فهل ستقوم القوة الأميركية الجديدة على صنع معازل كراهية، لها آثارها القاتلة فيما بعد؟

لكن الشعب الأميركي الذي تربى على الديمقراطية والكرامة الإنسانية، ليس هو الشعب الروسي الذي ذاق الأمرين من استبداد سبعين سنة؛ حتى سكن الرعب في تلافيف دماغه، وليست مظاهرات اليوم انتصارًا للمسلمين أو النساء أو ضد العنصرية، إلا تعبيرًا عن حيوية ذلك الشعب، وعن آلية النظام الديمقراطي في تطوير ذاته، ومنع سجنه في سجن الفردية والمعازل، ورب ضارة نافعة كما يقال؛ إذ سنشهد أميركا الجديدة ليس بالأفكار الترامبية، وإنما بأفكار ربيع شياب أميركا المقبل، وما الهبة العالمية أيضًا المدافعة عن حقوق الإنسان التي تشهدها اليوم أوروبا، إلا وقفة حادة في وجه العودة إلى السياسة اليمينية المتطرفة، إن شعوب العالم تتابع بجدية تامة تطور تشكل نظام عالمي جديد، لن تسمح فيه لأمثال ترامب وضع بصماتهم عليه.

مقالات ذات صلة

إغلاق